أضاعت قيادة جماعة «الإخوان» المصرية، التي تعودت على أجواء «المحنة» التاريخية وطقوسها، «منحة» لم تحلم بها هي ومن سبقوها في هذه الجماعة على مدى تاريخها. فقد أساءت إدارة السلطة التي صعدت إلى أعلى مستوى فيها عندما تولى د. محمد مرسي رئاسة الجمهورية في الأول من يوليو 2012. وكانت هذه السلطة «منحة» كبرى حصلت عليها الجماعة دون أن تستوفي من استحقاقاتها سوى التنظيم القوي الذي حافظ على تماسكه رغم الضربات الأمنية الكبيرة التي تعرض لها مرات، والملاحقات التي لم تتوقف منذ أربعينيات القرن الماضي. فقد ملأ هذا التنظيم الفراغ، الذي شهدته مصر عقب انتفاضة يناير 2011، لأنه كان هو الأكبر والأكثر قوة بعد عقود «ماتت» فيها السياسة الحزبية التنافسية القائمة على رؤى وبرامج وخطط وأخلت الطريق أمام «سياسة» الاتجار بالدين والتوسل بالخدمات الاجتماعية. غير أن التنظيم الذي كان هو مصدر القوة الوحيد لجماعة «الإخوان» في لحظة بحث فيها المصريون عن بديل يملأ الفراغ الذي ترتب على تفكك سلطة حكمت البلاد لعقود، صار هو مصدر ضعفها الأساسي عندما تولت الحكم بعد فوز مرشحها بالانتخابات الرئاسية الأخيرة. فقد كان التنظيم القوي قادراً على استثمار أخطاء السلطة التي أخذت تتفاقم منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، وملء الفراغ الذي نتج عن تفكك هذه السلطة بفعل انتفاضة 25 يناير. لكنه لم يكن مؤهلاً لتولي السلطة، ناهيك عن الانفراد بها والتعجل في استخدامها لتحقيق حلم التمكين الذي داعب خيال أجيال عدة في جماعة «الإخوان». ولذلك، تتحمل القيادة الحالية لجماعة «الإخوان» المسؤولية عن إضاعة الفرصة التاريخية التي أُتيحت لها، وبدت أقرب إلى «منحة» لم تستعد جيداً للاستفادة منها رغم أنها سعت إليها. ويتساوى في ذلك أن يكون خطؤها في تعجل السعي إلى السلطة، أو في إساءة استخدامها. فثمة اتجاهان في تحليل كيفية صعود جماعة «الإخوان» وانحدارها السريع في فترة قياسية تبلغ في حدها الأقصى عامين وخمسة أشهر إذا اعتبرنا تنحي مبارك بداية ذلك الصعود، ولا تزيد على عام واحد إذا تقيدنا بلحظة تولي مرسي الرئاسة. يذهب الاتجاه الأول إلى أن الخطأ التاريخي الذي ارتكبته قيادة جماعة «الإخوان» هو التراجع عن التعهد الذي قطعته على نفسها في فبراير 2011 بعدم خوض أول انتخابات رئاسية. والمفارقة هنا هي أن خطاب الجماعة، منذ إعلان ذلك التعهد وحتى اعتباره كأن لم يكن في مارس 2012، عبّر عن وعي بأن مصر لا تتحمل وصولها إلى قمة السلطة في قفزة واحدة أو بدون تدرج، وأن الجماعة بدورها لا تستطيع أن تحمل أعباء هذه السلطة. لذلك يعتقد هذا الاتجاه أن الخطأ الرئيسي لقيادة «الإخوان» هو النكوص عن تعهدها بعدم خوض الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في مايو ويونيو 2012، وعدم قدرتها على مقاومة إغراء الوصول إلى قمة السلطة عندما وجدت أنها قريبة المنال قياساً على نتائج الانتخابات البرلمانية التي حصلت على الأكثرية فيها (نوفمبر وديسمبر 2011). لكن اتجاهاً ثانياً في تحليل مغزى الانحدار السريع للجماعة نحو الهاوية بُعيد صعودها إلى القمة، يرى أن الخطأ الجوهري لا يكمن في عدم إدراك مغبة إغراء الوصول إلى قمة السلطة، بل في العجز عن مقاومة إغواء هذه السلطة حين صارت بين يديها فظنت أن حلم «التمكين» أو «التمكن» من مفاصل الدولة كلها قد تحقق. والحال أنه لا يمكن الفصل بين الخطأين رغم أنه لم يكن حتمياً أن يقود أولهما إلى الثاني الذي كان قاتلًا. فقد كان في إمكان قيادة «الإخوان» نظرياً أن تدير السلطة التي وصلت إليها بطريقة أفضل، أي أكثر انفتاحاً وأقل انغلاقاً، وأن تتصرف على أساس أن التركة الثقيلة تفرض المشاركة لا المغالبة وفق ما أعلنه الرئيس السابق المنتمي إليها حين كان مرشحاً ثم نكص عنه. غير أن تجنب الخطأ الثاني (الإسراع بالتمكن من الدولة) بعد وقوع الخطأ الأول (تعجل الوصول إلى السلطة) لم يكن ممكناً من الناحية الفعلية بسبب تكوين قيادة جماعة «الإخوان» الحالية وطبيعة تنظيمها. وربما كان من سوء حظ هذه الجماعة، أو من حسن حظ مصر في المقابل وفقاً لما يراه كثير من خصومها، أنها صعدت إلى السلطة في ظل القيادة التي تسببت في انحدارها السريع والمريع في آن معاً. فقد جاءت قيادة «الإخوان» الحالية (المرشد العام وأغلبية أعضاء مكتب الإرشاد) من رافدين يمكن اعتبارهما الأكثر انغلاقاً والأقل عقلاً في تاريخ الجماعة، وهما النظام الخاص أو الجناح العسكري الذي تولى تنفيذ أعمال العنف التي قامت بها في أربعينيات وبداية خمسينيات القرن الماضي، والتنظيم الذي أعاد سيد قطب بناءه في أوائل الستينيات. لم يكن هذان الرافدان في الصدارة عندما عادت جماعة «الإخوان» إلى الحياة السياسية باتفاق مع الرئيس الراحل أنور السادات كان طرقه الآخر عدداً من القادة التقليديين على رأسهم عمر التلمساني مرشدها العام في ذلك الوقت. وقد حرص التلمساني على أن يعتمد على الشباب الذين انضموا إلى «الإخوان» للمرة الأولى في ذلك الوقت بعد انشقاقهم عن «الجماعة الإسلامية» في الجامعات المصرية. وهؤلاء هم الذين أعادوا بناء قواعد الجماعة من خلال التغلغل المنظم في المجتمع، بدءاً بالنقابات المهنية. لكن من بقوا من الجناح العسكري، وعلى رأسهم صالح ومصطفى مشهور وأحمد حسنين تحالفوا مع من عملوا مع سيد قطب وفي مقدمتهم محمد بديع ومحمود عزت وجمعة أمين وغيرهم، سعياً إلى السيطرة على تنظيم الجماعة ليظل محكوماً بقبضة حديد في الوقت الذي فرض التغلغل في المجتمع شيئاً من الانفتاح تبناه حينئذ القادة الجدد القادمون من الجامعات والنقابات المهنية. لذلك بدا لكثير من دارسي «الإخوان» أن هناك جناحين أُطلق على أحدهما «تنظيمي» وعلى الثاني «إصلاحي». وقد كان أولهما تنظيمياً بالفعل من حيث إنه الأكثر تركيزاً على العمل داخل التنظيم للهيمنة عليه، بينما لم يكن الثاني إصلاحياً إلا بمقدار ما تطلب التغلغل في المجتمع شيئاً من مظاهر الانفتاح والمشاركة. وتمكن «التنظيميون» من جذب عدد من القادة الجدد أصحاب القوة المالية والقادرين على إدارة العمل داخل تنظيم مغلق، وفي مقدمتهم خيرت الشاطر، في الوقت الذي واصلوا عملهم لفرض قبضتهم تدريجياً. وقد اكتملت سيطرتهم على التنظيم عام 2009، أي عشية الانتفاضة التي أطاحت سلطة مبارك. ولم يكن ممكناً، في ظل هذه القيادة، تجنب المنهج الذي أدى إلى إهدار «منحة» يندر أن تتكرر والعودة إلى «المحنة» من خلال إعادة صنع المظلومية التي قد يكون ترويجها صعباً هذه المرة بعد أن ظلمت سلطة «الإخوان» معظم الشعب فانتفض ضدها.