منذ اندلاع ثورات «الجحيم العربي» هبّ الكتاب من مختلف المشارب إلى التحليل واستشراف الآفاق، بعضهم اعتمد الموضوعية والبعض الآخر ذهب إلى احتمالات تداعب الخيال. والغريب في الأمر أن تلك الكتابات، سواء من خلال المنشورات المطبوعة أو عبر مواقع الإنترنت، قد بالغت كثيراً في التحليل أو غاصت في سيناريوهات عدة بعيدة عن الواقع، وليس آخر أولئك الكاتب البريطاني «كريستوفر ديفيدسون» الذي ألّف كتاباً بعنوان «الانهيار القادم لممالك الخليج»، ألحقه بمقال يتنبأ فيه بسقوط دول الخليج العربي، نشره في مجلة «فورين بوليسي»، يقول فيه: «تزداد الضغوط الداخلية المتصاعدة التي تواجهها ملكيات الخليج (بما في ذلك انخفاض الموارد وارتفاع معدلات البطالة وضعف الإعانات) وظهور قوى حداثية جديدة من الصعب احتواؤها من طرف الحكومات بفضل وسائل الإعلام الاجتماعية والقنوات الفضائية والهواتف المتطورة». لكن تحليل الكاتب يفتقر إلى الدراسة الموضوعية أو المعرفة العميقة بدول الخليج عامة ودول معينة منها بشكل خاص، فكما نعرف لكل بلد خليجي خصوصيته. كما أن الكاتب لم يقم بمراقبة الواقع الخليجي عن قرب، خاصة في الدول الخليجية ذات الثقل، ليعرف ماهية المستقبل في هذه البلدان. والمراقب الحقيقي للواقع الخليجي يكتشف أن بلدان الخليج متجهة إلى عصر ازدهار جديد، ومستقبل واضح المعالم، حيث إن هذه الدول، ومنها دولة الإمارات العربية المتحدة، حققت تقدماً ملحوظاً في كافة المجالات، خاصة على مستوى رفاهية ورضا المواطن سواء من حيث الدخل أو الخدمات. وهذا ما تبيِّنه دراسات عدة وضعت الدولة في مراتب متقدمة، حتى إنه تم تصنيفها كواحد من أفضل الأماكن التي يمكن أن يولد فيها الفرد0. ولا يقتصر ذلك على دولة الإمارات وإنما يشمل معظم دول الخليج العربي. كما أن التطور والحداثة والالتزام بمعايير عدة، سواء فيما يتعلق بحقوق المرأة وحقوق الإنسان، توجهات تترسخ باطراد. فقد حصلت الإمارات على «إشادة من مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ودول كبرى في تنفيذ توصيات تعزيز حقوق الإنسان»، كل ذلك جعل من دولتنا واثقة الخطى نحو المستقبل. أما ما جاء على لسان الكاتب من حيث تعامل دول الخليج مع المعارضين، فلست أدري بالضبط ما قصده بـ«المعارضين»! هل يقصد جماعة «الإخوان» التي كانت ترسم خططاً إرهابية في دول الخليج بهدف إشعال فتيل الإرهاب في المنطقة، ظناً منها أنها ستحصل على السلطة أسوةً بما حصل معها في دول عربية بعد أن تسلقت الثورات واستغلت الأوضاع لتفرض نفسها، ثم سرعان ما سقطت بعد كشف مؤامراتها! وهنا وجب التذكير بطريقة تعامل الإمارات مع التنظيم السري لجماعة «الإخوان»، حيث تمت محاكمتهم بشفافية تامة، وبحضور جمعيات حقوقية وجهات إعلامية أكدت جميعاً نزاهة المحاكمة، لكن الإعلام الغربي يستغل أي مشكلة في دول الخليج ليحولها إلى سيناريوهات هوليوودية. المفاجأة أن مجلة «فورين بوليسي» نفسها، والتي انتقدت دول الخليج، سبق وأن نشرت قائمة بالدول العربية الأكثر فشلا، بل دأبت منذ عام 2005 على نشر مقياسها السنوي للدول الفاشلة، وهو ثمرة جهد مشترك بين المجلة وصندوق السلام، حيث تقوم بترتيب أبرز 60 دولة فاشلة، وقد جاءت في مقدمة الدول الفاشلة بلدان «الربيع العربي» التي سبق أن مدحها الغرب بمنجزاتها الديمقراطية! لكن اللافت أن دول الخليج العربي لم تكن ضمن القائمة، وهذا بشهادة الغرب. إذن تبقى الديمقراطية التي يتغنى بها الكاتب وجوقته شيء ملتبس عربياً، خاصة وقد أصبح يرتبط بالقتل والتهجير والفشل. فنموذج دول «الربيع العربي» مخيف إذا ما اقترن بما يحدث في دول مثل سوريا وتونس وليبيا واليمن، ويعبر عن واقع الديمقراطية الغربية وكيفية تطبيقها في الدول العربية. وهنا نتوقف عند مدى فاعلية تلك المنظومات الجاهزة والمعلبة للتطبيق في دولنا، حيث إننا حقيقةً نمتلك منظومة سياسية، قد يقول البعض إنها بحاجة إلى تطوير، لكن يمكن البناء عليها وليس استيراد ديمقراطية الغرب وتطبيقها بالإكراه! عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة لها احترامها تحت سقف القانون، كما أن أنظمة كالشورى ومبايعة الحاكم هي من صلب منظومتنا الإسلامية.. وكل ذلك يدعونا إلى أن نستمر في نهجنا الذي أثبت فعاليته، حيث إن نظام الحكم لدينا في الإمارات قاد البلاد إلى التقدم والازدهار، وقد حوّل إمارات متفرّقة في صحراء قاحلة إلى دولة قوية حديثة تضع مواطنيها في قمة أولوياتها، وهذا ليس تنظيراً وإنما هو واقع حقيقي، وهو ما دفع آلاف الغربيين الذين يعيشون في «الدول الديمقراطية» إلى الهرولة للعمل في بلادنا والعيش فيها. هنا أقول للكاتب إن ثورات «الربيع العربي» للأسف لم تخلق في دول الخليج سوى مخاوف من مستقبل تلك الدول الفاشلة، والعمل على إنقاذ سكانها من تلك العاصفة التي غذّت روح الطائفية والقبلية، لا بل والجاهلية أيضاً، حيث إن نظرة سريعة إلى ليبيا أو حتى تونس تظهر لنا إلى أين وصلت تلك الدول في ظل ديمقراطية الغرب التي دعمت ليبيا النائمة على بحر من النفط لتؤمّن آبارها وتترك الشعب الليبي في آتون اقتتال مقيت. أما في المقلب السوري فنجد أن الغرب، وفي المقدمة منه واشنطن، عاجز عن حل الأزمة التي أفرزت ما يقرب من مليوني لاجئ ومشرد وما يقرب من 200 ألف قتيل. ورغم استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي فقد عجزت أميركا عن أخذ موقف حقيقي تفرضه ديمقراطيتها وأدارت وجهها تجاه إيران لتسامح الأسد وتصالح طهران، وتترك الشعب السوري مقتولا غارقاً بدمائه. أقول للكاتب البريطاني ديفيدسون إنه قبل أن تنظِّر لسقوط الدول الخليجية، ندعوك أولا للتأمل في سقوط أميركا الذي فعلا قد نشهده في السنوات المقبلة. فالولايات المتحدة التي سبق وأغرقت أزمتها المالية دولا في أوروبا وغيرها، قد تكون عرضة هذه المرة لأزمة أخرى ربما تنهي منظومتها بشكل كامل، كما سبق لدولة عظمى مثل الاتحاد السوفييتي أن انهارت وتحولت إلى دول عدة، وهذا ليس ببعيد عن أميركا، وربما نشهد استقلال ولايتي تكساس وكاليفورنيا عن باقي الولايات الفقيرة لتصبح البلاد عدة دول. فأزمة الديون التي قدرت بأكثر من 16 تريليون دولار أوصلت الحكومة الأميركية إلى شبه إفلاس. ومن المتوقع مع قدوم العام الجديد أن تعود أزمة اقتصادية قاتلة هذه المرة، لذلك أنصح الكاتب البريطاني ديفيدسون بأن ينظر في شؤون الديمقراطيات الفاشلة قبل أن يفرد عدة كتب تنتقد نجاح دول الخليج. واللافت أنه سبق أن نشر عدة كتب منها «خليج غير آمن»، «أبوظبي: النفط وما بعده»، «السلطة والسياسة في دول الخليج العربية»، «دبي: نجاح يولد ضعفاً»، «الخليج الفارسي وآسيا»... والحبل على الجرار لدراسات تنتقد نجاح دول الخليج، النجاح الذي يشهد به خبراء المال والأعمال، ولتضح الصورة الكاملة لتوجهات ونهج هذا الكاتب.