الأسبوع الماضي، أعلنت وزارة الخارجية السعودية أن المملكة تعتذر عن عدم قبول عضوية مجلس الأمن إلى أن "يتم إصلاحه وتمكينه فعلياً وعملياً من أداء واجباته وتحمل مسؤولياته في الحفاظ على الأمن والسلم العالميين". ورغم أن هذا القرار كان نابعاً من استياء سعودي من فشل المجلس في إنهاء الحرب الأهلية في سوريا والتحرك بشأن موضوع قيام الدولة الفلسطينية، إلا أن الرفض ينطوي على اعتبارات أخرى، واعتذار السعودية عن عدم قبول منصب مؤقت في محفل دولي يمثل مؤشرا على أشياء أخرى مقبلة في وقت أخذت تنتهج فيه المملكة سياسة خارجية جديدة وحازمة. القرار اتُّخذ بعد أسابيع من النقاشات المحتدمة بين المسؤولين الكبار في العاصمة الصيفية جدة حول ما إن كان السعوديون يستطيعون تحقيق أشياء أكثر عبر تقلد منصب شكلي نسبياً في هيئة دولية، أو من خلال توسيع جهودهم وتطبيق مبادئهم بشكل أحادي، علماً بأن الحكومة السعودية كانت قد سخَّرت قدراً كبيراً من الجهد والموارد، خلال العامين الماضيين، لإعداد دبلوماسييها ومهمتها الأممية تمهيداً للانضمام إلى مجلس الأمن. غير أن الأحداث التي وقعت في سوريا خلال أشهر الصيف، والطريقة التي اتخذها النقاش حول الحرب في مجلس الأمن غيَّرا حسابات مؤسسة السياسة الخارجية السعودية. ومن المواضيع التي اكتست أهمية قصوى في المناقشات الداخلية مسألة ما إن كانت المملكة ستستطيع، في مثل هذه البيئة الإقليمية المشحونة، أن تتحمل سياسيا أن تكون عضواً ضعيفاً وعاجزاً – وإن كان لديه "صوت" في مجلس منصاع – عندما تواجه واجب إنهاء المذابح في سوريا الذي لا يقبل التأخير. القطرة التي أفاضت الكأس أتت خلال الأسبوع الذي سبق اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، عندما تم تداول مسودة قرار بشأن تفكيك مخزونات سوريا من الأسلحة الكيماوية بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. فالسعوديون، الذين كانوا مدعومين من قبل الفرنسيين، وبدرجة أقل من قبل البريطانيين، كانوا يريدون أن تنص المسودة على أن بشار الأسد و"شبيحته" سيتعرضون لإجراءات عسكرية عقابية شديدة في حال لم يمتثلوا للقرار. غير أن الروس كانوا متعنتين ومتصلبين، وشددوا على أن حتى التلميح إلى ذلك لن يكون مقبولا. ومن أجل تمرير المسودة، أذعن المسؤولون الأميركيون للرغبات الروسية وضغطوا على فرنسا وبريطانيا حتى تتراجعا عن هذا المطلب. وهكذا، أُنقذ الطاغية الأسد، ومُنح ما يشبه تفويضا أمميا للاستمرار في تذبيح الشعب السوري وتدمير ما تبقى من الدولة السورية. في هذه اللحظة، واجه السعوديون خيارين اثنين: أن يصبحوا عضواً غير مؤثر في مجلس غير فعال إلى حد كبير، مجلس لا يستطيع أحد فيه غير الأعضاء الخمسة دائمي العضوية تمرير السياسات، أو الاعتذار عن عدم قبول هذه المسؤولية الشكلية، والفارغة في نهاية المطاف. وباختيارها هذه الأخيرة، بعثت السعودية برسالة قوية حول فعالية مجلس الأمن وسياسة إدارة أوباما الشرق أوسطية. فالسعوديون قيَّموا خياراتهم المحدودة داخل مجلس الأمن على نحو واقعي، وكذا حقيقة أن لدى المملكة أصلا القوة للتأثير في الأحداث العالمية وممارسة تأثير كبير في العالم الإسلامي. والواقع أن الانضمام إلى مجلس الأمن الدولي ما كان ليغير هذه الأشياء. هذا القرار غير المسبوق يؤشر أيضاً إلى نضج السياسة الخارجية القوية والفعالة للسعودية، وإلى الأساليب التي باتت المملكة مستعدة لانتهاجها من أجل تحقيق أهدافها. فبحكم الضرورة، تعمل المملكة حالياً على إعادة صياغة سياستها الخارجية من أجل تقييم أفضل السبل لحل المأساة السورية، المأساة الإنسانية الكبيرة التي يمكن أن تؤجج توترات حادة أصلاً بين الجيران وتفضي إلى زعزعة استقرار المنطقة. وإذا كانت الأزمة السورية قد ساهمت في إبراز هذه الضرورة، فإنها هذه الأخيرة هي أيضا نتيجة اتجاهات أعمق باتت توجه القرارات السعودية أيضا: وتقصد بذلك عدم وجود زعامة أميركية في المنطقة، والاضطرابات العربية التي فجرتها "الصحوة العربية"، وسياسة التقارب الإيرانية الجديدة تجاه الغرب. باختصار، إن السعوديين يجدون أنفسهم اليوم أمام سياسة خارجية مختلفة تماما حتى مقارنة بما كانت عليه الأمور قبل عام واحد، وذلك بعد أن تُركوا وحيدين لحفظ الاستقرار في العالم العربي. وبالنظر إلى ضغط هذا المأزق، فإن الأساس الجوهري للعقيدة الجديدة للسياسة الخارجية السعودية بات على وشك تغيير المسار والتحول من الاحتماء بآخرين إلى حماية النفس والحلفاء. فالسعوديون يدركون أنهم في حاجة لإعادة هيكلة مؤسستي السياسة الخارجية والأمن القومي، حتى يتحركوا دولياً على نحو يتناسب مع الأهمية والتأثير السياسي والاقتصادي والديني، الذي تتمتع به المملكة. ومما لا شك فيه أن الطريق إلى الأمام طويل؛ إلا أنه من الواضح أن السعوديين عاقدون العزم على الدفع بمصالح أمنهم القومي بشكل أقوى، حتى وإن أدى ذلك إلى قطيعة استراتيجية مع الولايات المتحدة. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ ـ ـ نواف عبيد زميل مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية في جامعة "هارفرد" وزميل مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"