إذا كان الاتفاق الروسي الأميركي على تدمير السلاح الكيماوي السوري، والمبادرة السريعة للنظام السوري بالموافقة على ذلك، تم بتسهيل عمل المفتشين الدوليين وفتح كل مراكزه أمامهم، قد ألغى الضربة الأميركية التي كانت مقررة، وشكل حدثاً مهماً ترك تداعيات وآثاراً على تطور الأحداث في سوريا نفسها وفي المنطقة، وعلى العلاقات الأميركية الأوروبية والأميركية العربية عموماً والخليجية خصوصاً (والسعودية بشكل أخص)، ودفع بوزير خارجية أميركا إلى الإشادة بـ«فضل الأسد» في السرعة القياسية التي تسير بها الأمور... فإن الأمر الأهم والأبرز الذي يطغى على الحركة السياسية الدولية والإقليمية اليوم هو تطور العلاقات الأميركية الإيرانية والحوار المباشر بين طهران وواشنطن والسرعة التي يسير بها. وتشير كل المعلومات المتوافرة من الدوائر الأميركية والإيرانية والروسية، إلى الجدية والحرص المتبادل بين الطرفين للوصول إلى اتفاق بشأن الملف النووي الإيراني، والانطلاق منه نحو مرحلة جديدة من التعاون حول مسائل كثيرة في المنطقة في ظل تبادل عروض من مجموعة الـ 5+1، وبالتحديد من الأميركيين إلى الإيرانيين وعروض من قبل الأخيرين إلى الأميركيين مباشرة. ويترافق ذلك مع انزعاج إسرائيلي واضح وضغوط إسرائيلية تمارس ضد الإدارة الأميركية لعدم الاندفاع في تطبيع العلاقات مع إيران ورفع العقوبات عنها، بل للذهاب نحو تشديد العقوبات ودعوة الكونجرس الأميركي إلى التصويت على رزمة جديدة منها كانت أعدّت منذ فترة. كذلك فإن قلقاً يسود الأوساط الخليجية من التطور المفاجئ في العلاقات الأميركية الإيرانية، والاندفاعة الأميركية التي لم تأخذ بعين الاعتبار موقف دول الخليج ومصالحها، ولم تتشاور معها حتى أو تضعها في صورة ما يجري. كان التحريض الأميركي قائماً ضد إيران، وكانت التعبئة ضد المشروع النووي الإيراني قوية، وكان ثمة حديث عن صفقات أسلحة لدول الخليج، ومن ضمنها التحضير لبناء مفاعلات نووية لإحداث نوع من التوازن مع إيران. لكن فجأةً تغيّر كل شيء، باستثناء السعي الأميركي لابتزاز العرب والاستفادة من أموالهم أكثر فأكثر! المهم، في هذا السياق، أن كلاً من إيران وأميركا تحاولان تبرير «تحولهما». أميركا تعتبر أن العقوبات أدت غرضها وإيران تقول إن صمودها، واستخدامها لأوراق كثيرة في المنطقة، ومعرفتها بالتعاطي مع السياسة الأميركية ومآزق الإدارات الأميركية المتعاقبة نتيجة فشل خياراتها، هو الذي ثبّت موقفها. رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني قال في مقابلة مع صحيفة «لو موند» الفرنسية: «عندما كنت أتحدث إلى البرادعي، رئيس المنظمة العالمية للطاقة الذرية، كان يقول لي: عندما ترتبون أموركم مع أميركا كل شيء يمكن ترتيبه. وكنت أقول له: ما هو دور هذه المنظمة إذن، إنها تستخدم أداةً للضغط علينا». ويبدو واضحاً اليوم أن الإيرانيين قرروا سلوك هذا الطريق، ذهبوا للاتفاق مع أميركا مباشرة، أي مع «الشيطان الأكبر» نفسه! وهذا يفتح الباب لحل كل المشاكل إذا سارت الأمور على ما يرام. لاشك أنهم في الطريق إلى ذلك قد استخدموا كل مهاراتهم ومناوراتهم وتقيتهم وأسلحتهم المختلفة، وكانوا أشطر من غيرهم. فلاريجاني مثلاً، تناول السياسة الأميركية في المقابلة ذاتها من الساحة الأفغانية، فقال: «في عام 2000 كان إنتاج المخدرات في أفغانستان لا يزيد على 200 كلج، أما اليوم فنتحدث عن ثمانية آلاف طن»! وأضاف: «هذه المخدرات تصل إلى أوروبا عبر الطرق البرية أحياناً. لكنها في غالب الأحيان تصل عبر الجو. تشحن من مطارات باجرام وكابول وقندهار الخاضعة لرقابة قوات الأطلسي. من هناك تقلع الطائرات المحمّلة بالمخدرات»! الرئيس الإيراني حسن روحاني، وبعد عودته من نيويورك واتصاله بالرئيس الأميركي، التقى في طهران السفير السويسري الجديد، وسويسرا هي الدولة الراعية لمصالح الولايات المتحدة في إيران. قال: «إن سياسة ربح -خسارة غير مقبولة. نتطلع إلى معادلة ربح -ربح في تفاوضنا مع مجموعة الـ 5 + 1». ثم أضاف: «سويسرا هي الصديق الدائم لإيران الذي يحظى باحترام بسبب علاقاته الاقتصادية والتجارية الطيبة معنا». السفير علق بالقول: «نعتقد بإمكان خفض مستوى الحظر المفروض على إيران، استناداً إلى الظروف الحالية للاقتصاد العالمي، وسنبذل قصارى جهدنا لمساعدة إيران في هذا المجال». ويصرّ المسؤولون الإيرانيون على أن امتلاكهم السلاح النووي لأغراض سلمية هو حق لهم تقرّه المعاهدة الدولية المتعلقة بهذا السلاح، ويقولون: «إذا كان الغرب يريد تغيير قواعد اللعبة فليتذكر مفاوضات عام 2003. منذ عشر سنوات رفض الأوروبيون امتلاكنا 168 جهاز طرد مركزي في موقع أساسي. اليوم لدينا 15000 جهاز! إذا لم نصل إلى اتفاق سنستمر في مشروعنا، فماذا سيفعلون؟ نلتقي بعد عشر سنوات»! وفي الغرب يردّون: «لا يستطيعون فعل شيء. إنهم منهارون اقتصادياً. إنهم في الأرض». فيردّ الإيرانيون: «لسنا نحن من يعاني فقط. الطبقات الوسطى الأوروبية تعاني، وهناك أزمة مالية كبرى في أميركا، وفشل للسياسات الأميركية في المنطقة، ونحن فرضنا حضورنا ويجب أن يتذكروا أننا الدولة الوحيدة المستقرة في المنطقة. فالدول التي اجتاحها الأميركيون تعيش حال فوضى (العراق، وأفغانستان) وهي غير مستقرة. والدول التي اجتاحها «الإسلام الجهادي الراديكالي تعيش الحالة ذاتها (سوريا، وباكستان) يجب أن يعرفوا ذلك وألا يخسروا أصدقاءهم في إيران الذين يريدون الحل». في كواليس السياسات الغربية والأميركية ثمة من يقول: «روحاني جاء بنفَس إيجابي، وانتخب لحل الأزمة النووية. يجب ألا نضعفه. يمكننا الاتفاق معه». من هنا موجة التفاؤل الحذرة والاندفاعة السريعة في تطور الاتصالات والعلاقات بين أميركا وإيران. وقد بدأ النقاش يتركز حول تحرير قسم من الأرصدة المالية المجمدة، والبالغة حوالي 50 مليار دولار كمرحلة أولى، والاتفاق على الدور الإقليمي لإيران، وهذه عناصر كانت موجودة أساساً في سلة الحوافز الغربية، وبالتحديد الأميركية التي قدمت لطهران منذ فترة طويلة. طبعاً مثل هذا الحل سوف يريح إيران التي كان المسؤولون الأميركيون يقولون لأصدقائهم العرب: العقوبات ستسقط النظام الإيراني. لسنا بحاجة إلى ضربة عسكرية. ولا نريد لإسرائيل أن تضرب! ونحن نستنزف إيران مالياً وسياسياً في سوريا. وسيسقط النظامان معاً. وقد وعد الأميركيون أصدقاءهم بالوصول إلى مثل هذه النتيجة نهاية العام الماضي، ثم في منتصف العام الحالي. وما حصل هو انقلاب وانحراف أدى إلى ما أدى إليه في سوريا. ونحن نشهد فصول اتفاق مع طهران قبل نهاية العام الحالي! ويحق للإيرانيين في حال حصول ذلك أن يقولوا إنهم ثبّتوا موقفهم، واعترف لهم الغرب بما يمتلكون من قدرات نووية. صمدوا وحصدوا. وهذه حقيقة. وخسر الآخرون رهاناتهم. وسيكون لذلك انعكاسات على كل التوازنات في المنطقة. جولة المفاوضات الثانية مع إيران ستعقد نهاية الأسبوع الأول من الشهر المقبل. وتتسارع وتيرة الاتصالات الأميركية الروسية. والروس حذِرون من اندفاع إيران للحوار مع أميركا دون وساطتهم ودون دور أساسي لهم. وتقول الإدارة الأميركية إنها ستتشاور مع حلفائها في المنطقة، وبشكل خاص مع إسرائيل، ويبدو واضحاً للعالم الغضب السعودي الذي وصل إلى حدّ اعتذار المملكة عن عدم قبول عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن، بعد إلغاء كلمتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة. إسرائيل تمارس ضغطاً كبيراً، أعضاء في الكونجرس يرفضون توجه إدارتهم، والإدارة تخشى التصويت على تشديد العقوبات، كيف يمكن إرضاء إسرائيل؟ في الموضوع السوري قيل كلام حول «النظام العلوي» واستمراريته ودور إيران في بقائه. وعن إيران سمعنا كلاماً كبيراً حول «المشروع الصفوي» في كل المنطقة، وبشكل خاص في سوريا. في الموضوع الأول ما كان يعني إسرائيل هو «السلاح الكيماوي» الذي يهددها. أما البقية فلتدمّر سوريا وليقتل السوريون. لا مشكلة في ذلك. كل هذا يضعف سوريا. من ذلك النظام، بل من النظام «العلوي»، كما يقولون، أخذت إسرائيل السلاح الكيماوي. ماذا ستأخذ ثمناً للتسوية مع «المشروع الصفوي»؟ لابد من الانتظار قليلا. وإن كانت الأولوية الاستراتيجية لإسرائيل هي فلسطين وتصفية قضيتها. لكن الأيام المقبلة ستبلور كل الأمور. مع ما سيكون لكل ذلك من انعكاسات على موازين القوى في المنطقة والتحالفات الإقليمية والدولية الجديدة. إنها ملامح مرحلة جديدة ترسم في المنطقة ينبغي رصدها وقراءتها جيداً، فكيفية التعاطي معها مهمة للغاية كي يبقى للعرب دور يحمي وجودهم ومصالحهم.