هروب العقول العربية إلى خارج أوطانها ليس ظاهرة وليدة اليوم، بل هي ظاهرة قديمة كتب عنها الكثير من الكتّاب، لكنها حالياً تستحق تكثيف الضوء عليها بكافة وسائل الإعلام العربية، لأهمية العقول الفذة في قيادة مجتمعاتنا نحو طريق التقدّم والتحضّر، بعد أن أخذنا نتقهقر فكرياً! خاصة وأن الجميع يُدرك بأن حكوماتنا العربية متورطة فعلياً في شيوع هذه الظاهرة المخيفة التي أصابت مجتمعاتنا، بسبب استهتارها بعقول مبدعيها، وإعطاء ظهورها لهم دون أن يطرف لها جفن! لفت انتباهي مؤخراً مقال للكاتب توفيق أبو شومر، يتحدث فيه عن هذه القضية المهمة، ضارباً المثل بإسرائيل التي أعطت مؤخراً الضوء الأخضر للإعلام، لمناقشة هذه الظاهرة الخطيرة أمام الرأي العام الإسرائيلي، وذلك بعد أن حصل عالمان يهوديان مقيمان في أميركا على جائزة «نوبل» في الكيمياء لهذا العام، وبعد أن لاحظت تزايد هجرة عقولها للدول الأوروبية وإلى بلاد العم سام. الدراسات التي تم إنجازها في إسرائيل، بيّنت أن من بين كل أربعة علماء يُهاجر عالم واحد إلى خارجها، وأن هذا يعود من وجهة نظر المشرفين على هذه الدراسة المهمة، إلى الإجراءات البيروقراطية، والميزانيات المحدودة الموضوعة للأبحاث، إضافة إلى ضعف مرتبات العلماء والباحثين! مطلقين صفارة إنذار بأن هذه الظاهرة ستنعكس سلباً على الاقتصاد الإسرائيلي على المدى البعيد، ضاربين المثل بالصين والهند التي أسست معامل حديثة متطورة، وتحرص على تقديم تسهيلات مالية كبيرة للعلماء كي يستكملوا أبحاثهم. هذا التوجه أثار بداخلي الإعجاب والامتعاض في نفس الوقت! خاصة عندما نعلم بأن إسرائيل تُنفق على البحث العلمي في العام الواحد أكثر مما تصرفه الدول العربية مجتمعة في خمسة عشر عاماً! فهل هذا يجعلنا نلطم الخدود على ما آلت إليه بلداننا، من تجاهلها المتعمّد للعقول الفذة العربيّة، التي اضطرّت إلى تجرّع خيباتها وحمل أحلامها بعيداً، باحثة عن وطن يُقدّرها ويُؤمن بعبقريتها؟! منذ عام تقريباً، رحل عن عالمنا عالم الانثروبولوجيا المصري أحمد أبو زيد، وقد كان لهذا الرجل دور عظيم في تطوير الكثير من العلوم، خاصة تلك المرتبطة بالبيئة العربية. ويرى الكثيرون بأنه صورة مُشابهة للعالم جمال حمدان، مع هذا لم نسمع في كافة وسائل الإعلام، عن قيامها بإنتاج فيلم وثائقي أو تحقيق مصوّر، يتحدّث عن مناقب هذا العالم الجليل ومشوار حياته المشرّف! نحن للأسف مشغولون ببرامج اكتشاف المواهب الغنائيّة، كأن الغناء وحده هو الذي سيحل قيود أوطاننا من الفكر المتخلّف، وهو الذي سيقضي على سلبيات مجتمعاتنا! نعم، الفن الغنائي جميل لكن لا يجب جعله ركيزة أساسية! نحن نُريد أن تؤسس حكوماتنا مؤسسات علمية لدعم المواهب الشابة حتّى نبني مخزوناً علمياً نافعاً للأجيال القادمة. نحن بحاجة لتخصيص ميزانيات ضخمة لإقامة معامل أبحاث علمية متطورة، تفوق ما يتم تخصيصه للإنفاق المسلح! كفى تهاوناً في حق العقول الفذة! إننا نُصفق بفرح عندما نسمع عن فوز شاب عربي يُقيم في الخارج، بجائزة علمية مرموقة، كأننا من أخذ بيده وساعده على تحقيق حلمه! نفرح عندما نُشاهد عالماً عربياً هاجر في مستهل حياته من وطنه، وحصل على جائزة عالمية، متناسين بأن أمثال هؤلاء العباقرة لم يُحققوا إنجازاتهم لو لم تفتح لهم البلدان التي هاجروا إليها صدورها وتبنّت أحلامهم! كم نحن أمّة مسكينة، مغيّبة العقل ومسلوبة الإرادة! لكن الذي يُثير الشفقة بحق، أن أغلبية الناس ما زالت تتباهى بحضارتها التي غدت في خبر كان! متناسين بأن الأمم الحقيقية لا تقتات على ماضيها، وإنما تتباهى بما تفعله سواعد أبنائها لرفعة مجتمعاتها.