أدى استسلام الجمهوريين في الكونجرس الأميركي خلال المعركة الحامية التي دارت حول مستوى إنفاق الحكومة وسقف الدين العام، إلى ظهور أزمة خطيرة داخل الحزب الجمهوري ذاته. إلا أن أوباما والديمقراطيين لا يمتلكون إلا فسحة ضيّقة جداً من الوقت لتجنّب أزمة جديدة بعد تلك التي أصابت الاقتصاد الأميركي بضرر كبير وأساءت إلى السمعة والهيبة السياسية للولايات المتحدة في العالم أجمع. وتقضي اتفاقية الدقيقة الأخيرة التي حظيت بموافقة كل من أعضاء الكونجرس ومجلس النواب، ووقّعها أوباما يوم 17 أكتوبر، بزيادة سقف الميزانية حتى يوم 7 فبراير 2014 والإبقاء على مصادر تمويل الحكومة حتى يوم 15 يناير 2014. وفي خضمّ هذه الأزمة، لم يحصل الجمهوريون على تنازلات ذات شأن من الديمقراطيين مقابل هذا الاتفاق. بل على العكس من ذلك، ووفقاً لاستطلاعات الرأي الأخيرة، ما نالوا إلا المزيد من مشاعر الازدراء وعدم الرضى من الغالبية العظمى للأميركيين. ونتيجة لهذه الاتفاقية، بات من المتوقع أن تتقدم اللجنة النيابية المؤلفة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري باقتراحات جديدة في 13 ديسمبر المقبل لوضع حد لمحاولات رفع سقف المديونية. وبمعنى آخر، سوف يحدث هذا في غضون أسابيع قليلة مقبلة. ولا يمكن لأحد أن يقتنع بأن هذا الهدف الأخير ممكن التحقق وفقاً للمعطيات والتجاذبات السياسية القائمة، ولهذا فإن التوقعات بعودة المسرحية إلى فصلها الأول، بما في ذلك إعادة إغلاق الوكالات الحكومية، هو شيء محتمل. أما الأخبار الطيبة للتطور الأخير فتكمن في أن الغضب العام الذي أعقب إغلاق الحكومة الفيدرالية، والخطر الذي تعرضت له الهيبة الأميركية، جعل قيادة الحزب الجمهوري غير راغبة في تكرار العمل بتكتيكاتها غير الحكيمة، التي اتبعتها خلال الأسابيع القليلة الماضية. إلا أنه من الضروري الانتباه إلى أن قيادة الجمهوريين تواجه الآن تحديين كبيرين، هما: الانتخابات النيابية النصفية العام المقبل، وإمكانية خسارة الأغلبية في مجلس النواب وما سيتبع ذلك من غضب الأطراف المالية الداعمة للحزب التي عبرت عن انزعاجها من لعبة النزاعات المتواصلة التي يثيرها أعضاء حركة «حفل الشاي»، الذين خلقوا المشكلة من أصلها. وتم وضع تقدير للخسائر في العوائد المالية الناجمة عن إغلاق الحكومة لمدة 16 يوماً بما بين 20 و24 مليار دولار، وبما يزيد من الضغوط القوية، التي يعاني منها الاقتصاد الأميركي. كما أن هذه الخسارة لا يمكن استعادتها، وغير قابلة للتعويض بعد افتتاح الحكومة لأبوابها من جديد. ولعل الأهم من كل ذلك، هو الخسائر النفسية التي أدت إليها الأزمة بالنسبة لكل السياسيين الأميركيين، لأنها أثبتت أنهم بعيدون كل البعد عن إيجاد القواسم المشتركة وأسس التعاون لحل المشاكل التي تعاني منها الأمة الأميركية. وعندما يتناقش الجمهوريون في هذه المعضلات التي تسببوا فيها، فإنهم يواجهون انقسامات متعددة في المواقف داخل صفوفهم. وهذا لم يكن يحدث من قبل بل هو ظاهرة جديدة ناتجة عن فشلهم في وضع سياسات يمكنها أن تصب في مصلحة عامة الناس. ومن ذلك مثلاً أن الصقور في قيادات «حفل الشاي»، من شاكلة السيناتور الهائج «تيد كروز» (عن ولاية تكساس)، يضعون اللوم في هذه الهزيمة التي حلت بهم على زملائهم الجمهوريين في مجلس النواب والذين صوتوا في 16 أكتوبر إلى جانب الديمقراطيين من أجل رفع سقف المديونية ووضع حدّ للأزمة. وبناء على ما يقوله كروز فإن عدم رغبتهم في منع التصويت في الكونجرس هو دليل على ضعفهم وعدم رغبتهم في استخدام سلطتهم لإحراج وإذلال إدارة أوباما ورفض مشروعه للرعاية الصحية (أوباماكير). وأما الشيء الذي يرفض كروز ومعه الغالبية العظمى من الجمهوريين مواجهته والاعتراف به، فهو أن قانون الرعاية الصحية حظي بمباركة غالبية الشعب الأميركي وأقرّته المحكمة الدستورية العليا. ويمكن القول أيضاً بأن أقذع الانتقادات التي وجهها الجمهوريون لقانون الرعاية الصحية فشلت في تقديم بدائل واقعية من أجل تجاوز أهم العقبات التي تحول دون حصول الأميركيين على الرعاية الصحية التي يحتاجونها، وخاصة منهم أولئك الذين لا يمتلكون سجلاً في التأمين الصحي. وفي ظل القانون الجديد (أوباماكير) يمكنهم الحصول على تغطية كاملة لنفقاتهم لحل مشاكلهم الصحية إلى جانب التكفل بعلاج الحالات المستعصية السابقة لتاريخ صدور القانون. وهذا يمثل أهم عمل إصلاحي لأنه سيجلب الشعور بالاطمئنان للكثير من العائلات والأفراد، الذين عاشوا وما زالوا يعيشون حتى الآن هاجس الخوف من المرض في غياب الإمكانات المادية لتغطية نفقات العلاج الباهظة. وما لم يتمكن الجمهوريون من تقديم البديل المناسب لقانون «أوباماكير»، فإنهم سيفقدون مصداقيتهم أكثر وأكثر أمام غالبية الشعب الأميركي. وهم يواجهون الآن التحدي الأكبر المتمثل في أن الأقلية فحسب من أعضاء حزبهم الممثلين في الكونجرس ليست لديها رغبة في توسيع صلاحيات قانون الرعاية الصحية إذا كان ذلك يتطلب المزيد من الإنفاق لأموال الخزينة الفيدرالية. ولعل مما يثير السخرية أكثر هو أن البرنامج التطبيقي المتخصص بنقل قانون الرعاية الصحية إلى شبكة الإنترنت، واجه اختراقات وأعطال كثيرة في الوقت الذي كان فيه المسؤولون منشغلين بقضية إغلاق الحكومة. إلا أن أحداً لم يعطِ هذا الخلل أي اهتمام. والآن، ومع انتهاء أزمة الميزانية، استعاد أوباما وكبار مستشاريه السياسيين زمام المبادرة، وبات في وسعهم أن يقولوا بكل ثقة إن محاولات إجهاض قانون الرعاية الصحية لم تكن أكثر من زوبعة في فنجان، وأن يعقدوا العزم على وضعه موضع التطبيق الفعلي.