إن تعهد الأسد بتفكيك ترسانة الأسلحة الكيماوية لنظامه من شأنه إلحاق ضرر استراتيجي بقوات المتمردين في سوريا أكبر من الضرر الذي يمكن لهذه الأسلحة أن تحققه في ساحة المعركة. لقد حول انتباه العالم– والآمال في الحصول على دعم أميركي متزايد – بعيداً عن نضال المعارضة الشرس لتحرير وطنهم العربي. على مدار 43 عاماً من الحكم الديكتاتوري لأسرة الأسد، أوضح آل الأسد أنهم سيفعلون ما بوسعهم من أجل البقاء. فإذا كان البقاء يتطلب وحشية بربرية، فإنهم سيطلقون لها العنان. وإذا كان يعني استرضاء قوة أكبر، وأخذ مكاسبهم في موجودات غير حقيقية، فإن هذا أيضاً سوف يجدي. هذه السمة المميزة للأب، حافظ ، ظهرت أخيراً في الإبن الذي ظهر ذات مرة بأنه الأكثر دماثة، بشار. «ينبغي على الشعوب الأخرى ألا تعبث مطلقاً مع آل الأسد،» هكذا قيل لي عندما وصلت إلى بيروت كمراسل صحيفة واشنطن بوست في الشرق الأوسط بعد عامين من استيلاء الأسد بالكامل على السلطة عام 1970. «سوف يفعلون لك أشياء لن تفعلها لهم». ثم رأيت الوجه الآخر من عملة الأسد في عام1987، عندما وجهت إلي الدعوة على عجالة لزيارة دمشق لإجراء مقابلة مع الأسد الذي أصبح على قناعة بأن «ريجان» على وشك معاقبة دمشق لدورها في تفجير السفارة الأميركية وثكنة لمشاة البحرية الأميركية في هجمات منفصلة في بيروت في الثمانينات. أمضى الأسد الأب ثلاث سنوات موضحاً آماله الكبيرة في إقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، وكلما كانت تلوح أزمة في الأفق، في الواقع أو في خياله، يبدو أنها تتبدد بعد فترة وجيزة. الضغط الذي جعل بشار يبدو لطيفاً كان أكثر انتشاراً، وينبع فقط في جزء منه من الضربة العسكرية المحتملة على سوريا والتي أعلنها أوباما وحظيت بتغطية إعلامية جيدة، والتي تم حفظها في نهاية المطاف. وظني أن الخوف الروسي المتزايد من أن تخرج الحرب السورية خارج نطاق السيطرة جعل الكريملن يضغط بقوة على الأسد، للتخلي عن ترسانته الكيماوية. قد يكون ذلك أمراً إيجابياً في هذه السحابة السورية حالكة السواد، فقد يشير إلى أن هناك حدوداً لرغبة بوتين الانتقامية في جعل إدارة أوباما تدفع ثمن معارضته للعودة إلى الرئاسة الروسية، وتجاهله في الشأن الليبي وغيرها- في رأيه – من الجروح المتقيحة. بالطبع، من السهل جداً بالنسبة للصحفيين المبالغة في تفسير العلاقات والمشاعر الشخصية كأسباب لوقوع أحداث كبيرة في العلاقات الدولية. هذا الأمر يساعد على جعل القصة أكثر إنسانية وإقناعاً. غير أن الأزمة السورية قد سلطت الضوء الساطع على أهمية العلاقات الشخصية في عواصم العالم، وليس فقط في دمشق وموسكو. لقد كان التمرين الأول لأوباما ووزير خارجيته جون كيري في جمع أهدافهم ورؤياهم المختلفة حول السياسة الخارجية وتطبيق النتيجة المختلطة على وجه السرعة. وقد كان تردد أوباما الكامن والقوي في تقديم الدعم العسكري الكبير لائتلاف المعارضة السورية واضحاً منذ عام على الأقل. ففي الخريف الماضي، بينما أحرز المتمردون مكاسب خطيرة في ساحة المعركة، عكس الرئيس هذه الجهود في «البنتاجون» ووكالة الاستخبارات المركزية على أنها ترجع إلى زيادة مساعدة الولايات المتحدة. إن الضغط العسكري الذي جعل النظام السوري يتفاوض مع المعارضين المعتدلين في مؤتمر جنيف المقترح للسلام قد سمح له بالانحسار. والآن، في ظل أن الأسد هو المفتاح لتنفيذ تدمير أسلحة سوريا الكيماوية، فإن إدارة أوباما ليست في وضع يسمح لها بإبداء رأي إلى حد كبير إلى جانب أعدائه. إذا كان حافظ لا يزال معنا لكان الآن أباً مبتسماً فخوراً. إن انجراف الولايات المتحدة في الحرب الأهلية في سوريا كان واضحاً بما يكفي لجعل «كيري» يسر لزملائه في أسابيع الأولى له في وزارة الخارجية أن أهدافه الرئيسية الثلاثة تتمثل في جعل الولايات المتحدة أكثر انخراطاً في سوريا، وتحريك عملية السلام الإسرائيلية السورية وأن يفعل شيئاً بشأن التغير المناخي. لقد واصل حتى النهاية، وطرح القضية السورية بأسلوب قوي، حيث لم يترك فرصة إلا وأثار القضية في واشنطن والعواصم الأجنبية. كما أن كيري، الموثوق به من قبل الدائرة الداخلية الضيقة لأوباما أكثر من المنافسة الرئاسية السابقة هيلاري كلينتون، كان لديه فرصة أكبر للمناورة في الدولة وأظهر أنه سيستخدمها. كما بدا «كيري» أكثر وعياً من أوباما فيما يتعلق بضرورة التحرك الآن لإصلاح الضرر طويل الأمد الذي فعله تعرج سياسة الولايات المتحدة حول سوريا مع السعودية وإسرائيل. إن لقاءاته الأسبوع المقبل مع قادة هاتين الدولتين سوف تمنحه فرصة جديدة وسيحتاج إلى أن يخطو بحذر إلى الحدود التي وضعها البيت الأبيض لعمل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. أتمنى له التوفيق. على الجانب الآخر، ورغم التقاء المصالح الأميركية مع الرغبة الروسية بعد أن أجمع الطرفان على أن الحل العسكري للأزمة السورية «غير مقبول»، إلا أن مؤتمر «جنيف 2 » المقرر عقده خلال نوفمبر القادم، ما زال يواجه العديد من الإشكاليات التي يمكن أن تعصف به، وإذا كان «بيان جنيف 1» في 30 يونيو 2012 سعى إلى رسم طريق للتوصل إلى حل دبلوماسي للصراع، إلا أنه ظل حبراً على ورق. واعتبرت طهران عدم دعوتها لحضور المحادثات تجاوزاً غير مقبول بحقها كأحد أهم اللاعبين على الساحة السورية. فيما اتفقت روسيا والولايات المتحدة في مايو الماضي على محاولة عقد مؤتمر «جنيف2 » لتنفيذ الاتفاق، الذي يطالب بسلطة حاكمة انتقالية تتولى مهام الحكم في سوريا، لكنهما لم تتطرقا إلى مسألة بقاء أو رحيل الرئيس السوري من السلطة. وجاء في الاتفاق أن مثل هذه الحكومة الانتقالية يجب أن تختارها حكومة دمشق والمعارضة بالتراضي فيما بينهما، وهو ما يستبعد فعلياً - كما تقول الولايات المتحدة - بقاء الأسد في السلطة. جيم هوجلاند محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»