منذ مدة التقيت بعض القراء والمهتمين بالأدب، بناء على طلبهم، لنتناقش حول روايتي الأخيرة «سقوط الصمت»، وما إن جلسنا حتى سألني أحدهم: هل نعتبر هذه الرواية رداً على الذين يثيرون الشبهات في مصر حالياً حول ثورة يناير؟ فابتسمت وأجبته: هذا عمل فني عن حدث إنساني كبير، لكن بالقطع من يقرؤه، سيعي جيداً أن ثورة المصريين لم تكن أبداً «مؤامرة» ولا «خطة أجنبية لإسقاط نظام مبارك» كما يزعم البعض الآن، في محاولة يائسة لتشويه الثورة، أو تصوير 30 يونيو على أنه ارتداد على 25 يناير وليس استكمالاً لها، وخاصة أن «الإخوان» كانوا حلقة أخيرة في نظام مبارك أو هم الوجه الآخر من العملة. ولو كان بوسع المتآمرين أن يصنعوا ثورة في بلادنا، لاستطاعت المؤامرة الأجنبية الحالية على مصر أن تخرج الملايين من بيوتهم لمناصرة «الإخوان» والارتداد على «خريطة المستقبل». وأكملت حديثي: «البطولة في روايتي جماعية، ومنتقاة بعناية من الواقع، ولا يمكن أن تدفع أي مؤامرة كل هذه الأصناف البشرية لتتوحد في حشود هائلة على هتاف واحد وهو إسقاط النظام. وقد كتبت عما رأيته وعشته وتأملته جيداً، فالحقيقة التي لا ينكرها إلا مخبول هي أن ملايين المصريين قد شاركوا في ثورة يناير وكانت مطالبهم مستحقة لأن شروط الثورة على فساد مبارك واستبداده كانت متوافرة بشدة». وأتذكر أنني قد قلت في اليوم الثالث للثورة، الذي حمل اسم «جمعة الغضب» إن «الثورة انتقلت من فيس بوك إلى ناس بوك» تعبيراً عن نزول حشود جماهيرية هائلة تنتمي إلى كافة الشرائح الاجتماعية المصرية، وليس فقط المنتمين إلى الطليعة الثورية التي دعت إلى التظاهر ضد مبارك عبر مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت. وحين أقول إن «سقوط الصمت» النابت من رحم الواقع فيه ما يرد على المشككين في ثورة يناير، لا أطمئن شباباً خائفاً من هؤلاء على ثورته فحسب، بل أحيل من يحاولون تشويه يناير أو الانتقاص منها إلى مختلف النماذج البشرية التي شاركت في الثورة، حيث الثوري الحالم والانتهازي، وشباب من الشوارع الخلفية وأبناء الطبقة الوسطى، بالإضافة إلى اليساريين والليبراليين و«الإخوان» والسلفيين واللامبالين، والعمال والفلاحين والموظفين والإعلاميين والمثقفين، والشيوخ والصبية والرجال والنساء، والقاضي العادل، ورسامي الجرافيتي وصانعي اللافتات وكاتبي الهتافات والشعارات، وأطفال الشوارع المشردين ومتحدي الإعاقة، و«البلطجية» والمتحرشين والمخبرين، والأميين ومجيدي النقر على رقعة الحاسوب ليصنعوا الدهشة والأمل في العالم الافتراضي، وسيدات المجتمع، وفتيات واجهن كشف العذرية والسحل في الشوارع الملتهبة، وأخريات قاتلن كالرجال حين فرضت السلطة المستبدة على الثوار مغادرة التعبير السلمي عن الغضب. ولا يمكن أن يكون كل هؤلاء، الذين انتقيتهم بعناية في روايتي محاولاً أن أرسم ملامح تفاعلهم النفسي والإنساني والاجتماعي مع حدث ثورة يناير، قد جاءوا ليشاركوا في مؤامرة، إنما في ثورة رفعت شعارات مستحقة عن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ورد قارئ آخر متسائلاً: وهل تكفي الرواية دليلاً للرد أو وثيقة نضعها في وجه هؤلاء؟ فهززت رأسي وقلت له: هذا سؤال مهم، وأجيبك على الفور أن هذا ليس دور الرواية، ولا الأدب عموماً، لكن هناك أمرين في هذا الصدد، الأول أنت تتعامل مع رواية واقعية، شخصياتها من لحم ودم، ومن طين ريفنا وشوارع مدننا الخلفية، ومهما بلغ حجم الجمالي والتخييلي في النص فإنه يجسد ما عشته كمؤلف، كتب عن شيء عرفه جيداً وشارك فيه، وليس محض خيال. ثانياً أنت تدخل في صراع مع آخرين حول دور الزمن في تحديد وتعريف ما جرى، فـ«الإخوان» بدأوا يكتبون عن كونهم هم الذين قادوا ثورة يناير، وبعض المنتمين إلى نظام مبارك أخذوا يشككون فيها، وعلينا ألا نترك لأمثال هؤلاء أن يحددوا هم ما جرى أو يضعون له المصطلح المناسب، بل يجب أن نزاحمهم، سواء بالصورة والرسم أو البحث التاريخي وتسجيل اليوميات وكتابة المشاهدات والانطباعات أو بالأعمال الفنية مثل الروايات والقصص والأشعار والأفلام وغيرها، ولنتذكر في هذا ما نقوله دوماً من أننا لا نفهم السياق الاجتماعي لثورة 19 وما أعقبها على وجه دقيق إن أهملنا قراءة ثلاثية نجيب محفوظ «قصر الشوق» و«بين القصرين» و«السكرية». وغيرها من أعماله. وعلى المنوال ذاته لعبت روايات عالمية عديدة دوراً في إفهامنا البيئة الاجتماعية والنفسية التي دارت فيها الأحداث الكبرى، والمثال الناصع على هذا هو رواية «الحرب والسلام» للروائي الروسي الكبير ليو تولستوي التي جسدت حالة المجتمع الروسي أثناء الحرب النابليونية. وهناك رواية أحدث من هذا بكثير وهي رواية دون دوليلو وعنوانها «رجل ساقط» Falling Man التي يحكي فيها عن واقعة الهجوم على مركز التجارة العالمي بنيويورك في الحادي عشر من سبتمبر 2001. وبعد أن تجاذبنا أطراف الحديث عن الرواية وحولها اتفقنا في النهاية على أن أحداً ليس بوسعه أن يزوّر تاريخاً له حراس، كما أنه ليس بوسع أي سلطة أن تتجاهل مطالب مستحقة لشعب، جسدتها ثورة يناير، التي اختطفها «الإخوان»، واستعملوها لاختطاف الدولة نفسها، فاسترد الشعب دولته في 30 يونيو، ولن ينفك عن مطالب ثورة يناير، التي تجسد، على بساطتها، شروطاً أساسية لحياة تليق بآدميين حقيقيين. وقبل أن نقوم من مقامنا هذا سألني شاب: تحققت نبوءة روايتك بنهاية حكم «الإخوان» سريعاً، فهل بوسعنا أن نقاوم بالفن في المستقبل بما يمنع تمددهم في المجتمع مجدداً؟ فقلت له: إذا كانت المعضلة الأمنية حاضرة بشدة نتيجة انزلاق «الإخوان» إلى العنف، فإن المعركة الحاسمة معهم ذات نفَس طويل، سيحسمها الفن والفكر والبديل السياسي القوي والمشروع الوطني الذي تنجذب إليه عقول المصريين وأفئدتهم.