على الرغم من الصعوبات التي تواجه إقامة منطقة للتجارة الحرة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فمن الواضح أن اتفاقاً نهائياً بهذا الشأن سيتخذ في نهاية المطاف، ما يعني إقامة أكبر منطقة للتجارة الحرة في العالم بين ضفتي الأطلسي سيكون لها تداعيات على التجارة الدولية، وعلى علاقة الطرفين الاقتصادية والتجارية ببقية البلدان، علماً بأن مثل هذه الخطوة تستجيب ومصالح الطرفين في ظل التغيرات الدولية. وتستحوذ الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي على 45 في المئة من الاقتصاد العالمي وعلى ثلث التجارة الدولية، إذ إن الاتفاق بينهما على إقامة منطقة للتجارة الحرة سيؤدي دون شك إلى تأثر تجارتهما مع بقية البلدان، وسيرفع من القدرات التنافسية لمنتجاتهم في الأسواق الأوروبية والأميركية. وضمن القضايا الإيجابية العديدة، فإن هذا الاتفاق المتوقع سيعزز النمو الذي يطمح إليه الطرفان، وسيسهم في خلق مئات الآلاف من فرص العمل، خصوصاً وأن هذه الاتفاقية لن تقتصر على إزالة الرسوم الجمركية، كما هو متعارف عليه في مثل هذه الاتفاقيات، وإنما سيشمل ذلك أيضاً تحرير التجارة في قطاع الخدمات، وهي خطوة متقدمة إذا قورنت بتحرير التجارة في نطاق منظمة التجارة العالمية، والتي لاتزال جولة الدوحة الخاصة بتحرير الخدمات تراوح مكانها منذ عدة سنوات. وبما أن الأمر يتعلق بهذا الحجم من التغيير في التجارة الدولية، فإنه لا بد في المقابل أن تسعى بقية بلدان العالم إلى إعادة ترتيب أوضاعها التجارية، بما فيها توقيع المزيد من اتفاقيات التجارة الحرة، وبالأخص مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين والهند وتركيا والبرازيل وروسيا واستكمال تطبيق الاتفاقيات في نطاق كل تكتل، كتلك الاتفاقيات الموقعة بين دول مجلس التعاون الخليجي، إذ اقتصر تطبيق اتفاقية التجارة الحرة والاتحاد الجمركي الخليجي الذي اعقبها على تحرير تجارة السلع، في حين لا تزال تجارة الخدمات وحرية انتقال الاستثمارات ورؤس الأموال تعاني بعض الصعوبات والإجراءات الإدارية المعقدة. بالتأكيد اتفاقيات بهذا الحجم وهذه الأهمية لابد وأن تواجه صعوبات عديدة وتضارباً في المصالح، لكن التغلب عليها والوصول لتوافقات ومساومات أمر متاح دائماً، إلا أنه لا بد من تحديد فترات زمنية لعملية المفاوضات، ومن ثم التطبيق. وإذا أخذنا على سبيل المثال موضوعنا الحالي الخاص بمحاولات إقامة أكبر منطقة للتجارة الحرة في العالم بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإن العديد من الصعوبات لا تزال قائمة، فهناك التفاوتات الخاصة بالزراعة والدعم المقدم لهذا القطاع الحيوي ومسائل حماية البيئة والأغذية المعدلة وراثياً التي تعترض عليها أوروبا، كما أن بعض الأوروبيين يعتقدون أن هذه الاتفاقية ستمنح الشركات الأميركية متعددة الجنسية امتيازات تتعارض مع المعايير الأوروبية. في المقابل لدى بعض الجهات الأميركية مواقف متشددة تجاه بعض المطالب الأوروبية، كالقيود المفروضة على مزودي الخدمات، وعلى بعض أنواع السلع الأميركية غير المطابقة للمواصفات الأوروبية. الفرق أنه في هذه الحالة هناك حلحلة بين فترة وأخرى وتنازلات من الطرفين وتوافقات من أجل مكاسب ذات أبعاد استراتيجية وتهيئة لأوضاع الجانبين للمحافظة على مواقعهما وتعزيزها في التجارة والعلاقات الدولية، وهو ما يتطلب استيعابه والاستفادة منه في التعاون مع الأطراف الأخرى، وفي نطاق التحالف في كل تكتل على حدة. والخلاصة، أن العالم يقف على بعد خطوات من تغير جذري في العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية ستترك آثارها على طبيعة هذه العلاقات من جهة وعلى علاقات كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مع بقية البلدان من جهة أخرى، مما يتطلب في المقابل الاستعداد من خلال تقوية التكامل الإقليمي في نطاق التكتلات، كالتطبيق الكامل للاتفاقية الاقتصادية بين دول مجلس التعاون الخليجي، وتعزيز وتنويع التحالفات مع القوى الاقتصادية الصاعدة في العالم. د.محمد العسومي