يتعرض أفراد الجنس البشري حالياً لوباء من الأمراض غير المعدية، يعتبر مسؤولًا عن أكثر من نصف الوفيات بين البشر. فمن بين 57 مليون وفاة بشرية سنويا، يعود السبب في 36 مليون منها، إلى مرض أو آخر من الأمراض غير المعدية، وهو ما يعادل 63 بالمئة من مجمل الوفيات. ومن بين هذه الوفيات، يكون النصف تقريباً بين أشخاص لم يبلغوا بعد سن السبعين، وهو متوسط العمر المتوقع حالياً للإنسان، مما يجعل هذا النصف من الوفيات يتصف بكونه وفيات مبكرة. والأمراض غير المعدية ببساطة، هي: الأمراض التي لا تتسبب فيها عوامل معدية، مثل الجراثيم، والبكتيريا، والفيروسات، والفطريات، أو غيرها من الكائنات الحية، كما أنها لا يمكن أن تنتقل من شخص إلى آخر. وتتضمن هذه الطائفة من الأمراض، على سبيل المثال لا الحصر: أمراض القلب والشرايين، وأمراض المناعة الذاتية، والسكتة الدماغية، والعديد من أنواع الأمراض السرطانية، والأزمة الشعبية، وداء السكري، وأمراض الكلى المزمنة، وهشاشة العظام، والزهايمر، وقتامة عدسة العين، وغيرهم. ورغم أن هذه الطائفة من الأمراض -خطأ - يطلق عليها أحيانا لقب الأمراض المزمنة، إلا أن طول فترتها ليس الصفة المحددة لها، وإنما كونها ناتجة عن عوامل غير معدية. فبعض الأمراض المزمنة، مثل نقص المناعة المكتسبة أو الإيدز، والذي يستغرق أحيانا سنوات وسنوات حتى تظهر أعراضه وعلاماته، هو مرض معد. ورغم أن الأسباب والاضطرابات الفسيولوجية، تتنوع وتتعدد بين الأنواع المختلفة للأمراض غير المعدية، فإنها تشترك غالباً في وجود عوامل خطرة، مؤهلة أو مساعدة على الإصابة. عوامل الخطر هذه قد تشمل: العمر، والجنس أو النوع، والتركيبة الوراثية، والتعرض للملوثات البيئية، بالإضافة إلى بعض السلوكيات غير الصحية، مثل التدخين، والغذاء غير الصحي، وقلة النشاط البدني أو الحركي. وفي ظل حقيقة أن العديد من عوامل الخطر، وخصوصاً المتعلقة بالسلوكيات غير الصحية، من الممكن درء خطرها، أو على الأقل التقليل من وقعها، ينظر الكثيرون لغالبية الأمراض غير المعدية، وما ينتج عنها من وفيات، على أنها أمراض ممكن الوقاية منها، وللوفيات الناتجة عنها على أنها وفيات كان من الممكن تجنبها لحد كبير. والمؤسف أن تحقيق هذه الوقاية لا يتطلب استثمارات ضخمة في الأجهزة الحديثة، ولا يحتاج إلى تطبيق أساليب طبية معقدة، مثل الهندسة الوراثية أو زراعة الخلايا الجذعية، بل مجرد بعض الإجراءات والتدابير، السهلة، والبسيطة، والزهيدة الثمن. وتتضح هذه الحقيقة بشكل جلي، من خلال قدرة إجراء بسيط، وسهل، وغير مكلف، مثل ممارسة المشي بشكل منتظم، على التقليل بشكل ملحوظ من عامل الخطر المرتبط بقلة النشاط البدني، وما ينتج عنه من أمراض وعلل. وهو ما عاد ليأكده تقرير صدر حديثا عن جمعيتين خيرتين بريطانيتين، الأول تعمل في تشجيع المجتمع على ممارسة المشي، والثانية توفر الدعم والمساندة لمرضى السرطان. هذا التقرير والذي يحمل عنوان "المشي يؤدي الغرض" (Walking Works)، أظهر أن ممارسة رياضة المشي يمكنه أن ينقذ حياة الآلاف من البريطانيين، أو الملايين حول العالم، ويمكنه أن يحدث تغييراً جذرياً وجوهرياً في حياة الكثيرين. فالمشي، وما ينتج عنه من زيادة في حجم النشاط البدني اليومي، لا يقي فقط من أمراض القلب والشرايين، كالذبحة الصدرية والسكتة الدماغية، بل يمكنه أن يحقق فارقاً ملحوظاً في الوقاية من الإصابة بداء السكري، وعته الشيخوخة من نوع الزهايمر، والكثير من الأمراض السرطانية. هذه الفائدة الأخيرة، أو الوقاية من الأمراض السرطانية، كانت قد أكدتها مؤخراً دراسة أجراها علماء الجمعية الأميركية للسرطان، حين أظهرت نتائجها أن المشي لمجرد ساعة يومياً، يمكنه أن يحقق قدراً ملحوظاً من الوقاية ضد سرطان الثدي، للنساء اللواتي وصلن سن انقطاع الطمث. فمن خلال مسح شمل أكثر من 73 ألف امرأة، تخطين سن انقطاع الطمث، تبين أن من كن يمارسن المشي لمدة سبع ساعات أسبوعياً، كانت معدلات الإصابة بسرطان الثدي بينهن أقل بنسبة 14 بالمئة، مقارنة بالنساء اللاتي كن يمارسن المشي لمدة ساعتين أو ثلاث فقط أسبوعيا. وعلى المنوال نفسه، أظهرت دراسة أخرى مهمة ومثيرة، أن ممارسة رياضة المشي، تعادل في الكفاءة والفعالية، فعالية الأدوية والعقاقير الطبية المستخدمة للوقاية من الوفيات الناتجة عن أمراض القلب، بل أيضاً تزيد في فعاليتها وكفائتها، عن فعالية وكفاءة الأدوية والعقاقير المستخدمة في الوقاية من السكتة الدماغية. وبخلاف الفارق في الفعالية والكفاءة، تتمتع رياضة المشي بانعدام المضاعفات والأعراض الجانبية، مقارنة بالأدوية والعقاقير الطبية التي لا تخلو من مضاعفات وأعراض جانبية. هذا بالإضافة إلى أن تلك الأدوية والعقاقير تستهدف غالباً مرضاً أو آخر، بمعنى أن الوقاية من عدد من الأمراض، قد يتطلب تناول عدد من العقاقير، وهو ما يزيد من احتمالات المضاعفات، ويرهق ميزانية المريض ونظام الرعاية الصحية برمته، مقارنة بالمشي والذي دائما ما تكون تكلفته صفرية مجانية. وأخيراً، يترك المشي، أو التمشي، أثراً إيجابياً على الحالة النفسية والذهنية، لا يمكن لأي من العقاقير أن تبلغه، مما يجعل المشي ضمن أفضل سبل الوقاية من الأمراض غير المعدية. د. أكمل عبدالحكيم