رغم أن دولة الإمارات العربية المتحدة تكاد تكون قد وصلت إلى المعايير التنموية التي تجعلها تكتفي بما وصلت إليه الآن، فإن القيادة السياسية فيها تفاجئك بأن الفكر التنموي لديها مازال مستمراً في تطوره وعطائه وأن وصول القمة التي يتمناها الآخرون ليس شرطاً للتوقف عند هذا المستوى. مؤخراً شهدت الدولة الكثير من الفعاليات لها علاقة بالتنمية المجتمعية وبالعلاقات السياسية مع العالم الخارجي. وتلك الأنشطة تجعل المراقب يكاد يعتقد بأن القيادة السياسية للإمارات ترى في المستقبل تفاؤلا أكثر من المراقبين بمن فيهم بعض أبنائها، وترى في مستقبل المواطن الإماراتي أبعد مما يبحث عنه المواطن نفسه في أحيان كثيرة. قصدت بذلك تخريج الدفعة الأولى من الخبراء المواطنين في إدارة الأداء الحكومي والذي تم في القصر الرئاسي الأسبوع الماضي، وهو مؤشر يوضح أننا نسير نحو تعزيز سياسة «تمكين» المواطنين، السياسة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله. وقصدت تلك الجولة التي قام بها صاحب السمو حاكم الشارقة إلى إسبانيا وفرنسا والتي نتج عنها توقيع اتفاقيات أكاديمية مع جامعات عريقة من أجل تعزيز العمل البحثي في الجامعات الإماراتية وبما يسمح للإنسان الإماراتي بالتفاعل مع الباحثين في العالم المتقدم. قصدت أيضاً انطلاقة المشاريع الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة للمواطنين برعاية صندوق خليفة، والتي تهدف إلى تشجيع المواطنين على الدخول في قطاع الصناعة والاستثمار باعتباره قطاعاً مهماً في دفع التنمية كضمانة أساسية للإنسان. الإمارات خلال هذه الفترة هي الدولة الأكثر تطوراً في منطقة الشرق الأوسط والأسرع تغيراً في العالم رغم أن الأزمة المالية العالمية أصابت جوانب من اقتصادها، وهذا دليل كاف على وجود قيادة تدير بشكل صحيح، وعلى أن قراءة المستقبل لا تحددها الدراسات النظرية فقط، رغم أهمية ذلك، وإنما التمرس الميداني ورؤية القيادة أحياناً يفوقان في أهميتهما من ناحية التطبيق. وكذلك تُعتبر الإمارات الدولة العربية الأكثر استقراراً، من الناحية السياسية والأمنية، رغم أن الإقليم بأكمله «ملتهب»، والدليل حالة النشاط الاقتصادي والسياحي الذي تؤكده الكثير من المؤشرات الاقتصادية، مثل معدل الإشغال في فنادق الدولة، والقرار الذي اتخذه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي الأسبوع الماضي بشأن فتح مراكز التسوق على مدار الساعة خلال أيام عيد الأضحى المبارك، في دلالة على النشاط الاقتصادي وعلى الإقبال العالمي حيال الإمارات. الإمارات تمثل مثار إعجاب منذ قيامها، لأسباب كثيرة، سواء لفكر جيل المؤسسين، أو لناحية الفكرة الاتحادية والتي جعلتها نموذجاً للآخرين.. وما زلت أذكر الخبر الذي نشرته جريدة «الاتحاد» قبل سنوات عندما كان الشعب العراقي يبحث عن أفضل نموذج لتطبيقه في بلاده، فكان النموذج الإماراتي الأنسب مقارنة بنماذج اتحادية عالمية أخرى. والإمارات أيضاً دولة «ملهمة» لدول العالم والتي تنظر إلى تجربتها لاسيما لجهة حسن استغلال الموارد الطبيعية وفن إدارتها. وملهمة كذلك في مجال التنمية المجتمعية ورعاية مواطنيها، إذ هناك الكثير من دول العالم تستنسخ تجارب الإمارات لتطبيقها في مجتمعاتها. قبل أسبوعين زار الدولة وفد من سلطنة عمان بهدف الاستفادة من التجربة الإماراتية في مجال الرقابة الغذائية، وأتكلم هنا عن أمثلة لا عن كل الحالات. وقد بات ينظر إلى الإماراتي على أنه الإنسان «المحظوظ»، وذلك على الأقل لأن حالة النهوض الحضاري في بلاده لم تركز على جانب من دون آخر، وهذه مسألة ينبغي النظر إليها بموضوعية وحيادية. فالتنمية تكاد تكون شاملة بل إنها تواكب التغيرات التي تحدث في العالم وتحاول مسايرة كل جديد، والدليل أن الإمارات اليوم تعد مرجعية إقليمية. ولو ركزنا النظر على ما يتم في الإمارات حالياً فسنجد أن التركيز منصب على الإنسان الإماراتي، وهذا التركيز لا يقتصر على التعليم بل على نوعيته، والأهم من هذا توعيته بكيفية خدمة هذا الوطن الذي ينتمي إليه، وهذا أمر مهم للغاية؛ رغم أن معظم من تجاوزوا على الدولة من أبنائها هم من المتعلمين، لكن فكرهم ليس مع الوطن! برهنت الإمارات في أكثر من موقف على أنها نموذج تنموي عربي بل وأشمل من ذلك، فهي فخر للعرب قبل الإماراتيين، وفي مناسبات الأعياد مثلما نعيشه هذه الأيام، يرفق زملاؤنا العرب مع تهنئة العيد: «الله يحفظ لكم الإمارات وحكامها». وبرهنت أيضاً على قدرتها على استمرارية الإبداع في الأفكار، فعلى مدى أربعين عاماً وهي «متوهجة» في التنمية. أحياناً تحاول أن تتخيل العالم العربي من دون الإمارات فتكاد لا تجد ما يجعلك تنتمي إلى عالمنا. إنها الآن المحطة التي يسعى إليها كل العرب، وهذا شيء يسعدنا نحن في الإمارات بل يزيد فينا الشعور بالفخر بالانتماء إليها، خاصة أن البعض يرى في خطوات الإمارات «صدى» جميلا أو مستقبلا باهراً. لذلك نقول إن التحديات التي مرت بها الإمارات صقلتها، والأهم أن رؤية القيادة أكدت أن بعض القرارات تحتاج جرأة وشجاعة، لأن التردد ربما تكون عواقبه سلبية أكبر. فكثير من أساليب عمل الإمارات شجعت من كان متردداً في خوض التجربة، وبالتالي فإن الأصداء الإماراتية صاحبت ذلك. عندما يتم الحديث عمن استفاد من التنمية الإماراتية، أعتقد أن المسألة تجاوزت العالم العربي كإقليم وشملت العرب والعجم وغيرهما من شعوب العالم. فالكثيرون عملوا في الإمارات وربما درسوا فيها. ومظاهر التنمية الإماراتية يمكن ملاحظتها في العديد من التجارب واستنساخها. الشاهد أن الإنسان الإماراتي أمام واجب وطني كبير أبسطه الموضوعية في الحديث عنها، مع أن حقها عليه أكبر. والشاهد أيضاً أن الإمارات سدت فجوة تنموية عربية حقيقية وسمحت لكل العرب أن يفتخروا بتجربتها النموذجية التي تستحق منهم الإشادة. فقط ما نحتاج إليه هو فكر عقلاني ومنطقي عندما تتم المقارنة بين التجارب. الإمارات رفعت عالياً سقف توقعات الإنسان العربي وأعطته أملا بأن العرب لا يقلّون عن غيرهم، وبالتالي هذا دليل كاف على أنها محل إثارة وإعجاب. وإلا ما تفسيرنا للقسمات الكبيرة التي تلوح للمراقب الخارجي بأن هناك دولة صغيرة الحجم، لكنها تمتلك صيتاً إيجابياً واسعاً في العالم، فما بالك عندما تقترب من تفاصيل التجربة. هذه المقالة تتزامن مع صدور كتاب جديد لباحث إماراتي يقيّم التجربة الإماراتية من مركز عربي، لكني أجده غير موضوعي في الطرح ولا ينصف تجربتها.