كان الألم يعتصر قلب صديقنا الشاعر محمد المكي إبراهيم، على ما بقى من ثورة أكتوبر 1964 أو ما انتهت إليه قرينتها انتفاضة أبريل 1985، رغم الآمال الكبيرة التي تسربت بين سطوره عن أحداثهما. وكلما اقترب من المقارنة، أو طرح احتمالات عودة صيغة أي منهما عاد به الإحباط إلى دائرة الألم! وقد سجل ذلك في دراسه شاعريه أتيح لي قراءتها في أكتوبر 2010، عن "مشاهداته وتحليلاته لأكتوبر 1964، وكانت المنطقة العربية تغلي باحتمالات انتفاضات مماثلة، ووقعت فعلا في تونس ،ومصر عام 2011 !...وكان ما كان من آلام لحقت بها مثلما جري لثورة أكتوبر! لم أدر ما إذا كانت هذه حساسية الشاعر في صديقنا أم الدبلوماسي؟ هل هو الشاعر الشاب الذي عايش محمد عبد الحي، ومحمد وردي، وهو يجري في دروب" الأسفلت والترابة" مع أحداث 1964، أم أنه ذلك الذي أصبح دبلوماسياً يعاني ما أصاب طموح الشباب خلال عقود من الحياة العملية؟ ولو أني أملك تاريخ كل قصيدة سطرها المكي لسجلت تطورات هذه الثورات معه، لكن دعوني أتوقف عند ذلك الشطر من الإصرار الذي يكشف عن "المؤمل" قبل"المتألم" لأنه "سيدق الصخر حتي يخرج زرعا وخضره "! إذ يقول عن جيله: َمنْ غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصرْ. وفى لحظة وصول نص "المكي" إلي عن ثورة أكتوبر وما بعدها، كنت أكتب نصاً عن إبداعات الشعوب الأفريقية، ومشاهد انتفاضاتها طوال الفترة الأخيرة نفسها فيما يسمى "بالمؤتمرات الشعبية الوطنية"، و"السيادة الشعبية"، امتدت بإرهاصات التحول الديموقراطي على طول القارة وعرضها في مشاهد متوالية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، لكنني وجدتها مشاهد ممتدة في الواقع السياسي الأفريقي الحديث، قادمة من "أرض الستينيات"، بل ومن مشهد انتفاضة أكتوبر الشعبية نفسها.. ها هو المشهد السوداني في أكتوبر 1964 يكمل معاني كثيرة كانت تتحرك على مستوى عربي أفريقي، بل ومستوى عالمي. مشهد الرغبة في عالم استقلالي جديد، لا تنجزه وتيرة التغيير القائمة، ولا عناصر الحكم فيها والتي بلغت في تناقضها مع الطموح الشعبي حد قيام بعض العسكر بدور القيادة لعملية التغيير المبتغاة. كانت تجربة نهوض "اللومومبية" واغتيالها على حدود السودان الجنوبية، وتحولات "باندونج" وعدم الانحياز على حدود السودان الشمالية في مصر، وكانت هناك "النكرومية" وثورة الجزائر، وتنامى دور معسكر الاشتراكية.. الشعوب إذن كانت تغلي بالتمرد على "النظام القديم" عالمياً، بل والنظم القديمة محلياً، ولذا تأتي تحركات أكتوبر المجيدة لتنير في الأذهان تساؤلًا شرعياً يضعه "محمد المكي إبراهيم" حول ما إذا كانت "أكتوبر" انتفاضة أم ثورة؟ ومهما كان الحزن على ما بقي من أكتوبر مباشرة، أو في الفترة المحدودة التي أعقبتها؛ فإن الزخم الذي فجرته في الشعب السوداني منذ ذلك الحين وحتى تكرارها النسبي في أبريل 1985، لابد أن يوحي بمعنى "الثورة" في أكتوبر بأكثر ما يجعلها مجرد "انتفاضة" عابرة. والتساؤلات التي تطرحها قراءات "محمد المكي" عقب أكتوبر 1964 جديرة بدورها بالانتباه... ثمة منها حول موقف الجيوش الوطنية في البلاد العربية، وهى مختلفة بالضرورة عنها في أنحاء القارة الأفريقية. وتكاد التجربة والأسئلة تتكرر عن أبريل 1985 وبعدها في مختلف البلاد العربية ، وتكاد ظروف الوضع "العسكري" تكون هي نفسها عقب الانتفاضات حتى تلتهم الأدلجة الإسلامية الجيوش، فيزداد تشاؤم "المكي" من احتمالات الثورة أو الانتفاضة! مع هذه الملاحظة الأخيرة، يعالج المكي في دراسته تطور "الموقف الإسلامي" من ثورة أكتوبر- ومعنى الثورة عموما عندهم، فيلمح بطرافة مثيرة إلى "خجل بعض الإسلاميين الآن من نصيبهم في ثورة أكتوبر 1964وابنتها انتفاضة أبريل 1985. فنراهم يتسترون على ذلك الجزء من تاريخ الحزب... ولا غرو في ذلك، فإلى وقت قريب كان قائلهم يقول إن الديمقراطية تنصب الشعب مصدراً للتشريع والسلطات، والأحرى أن تكون الحاكمية لله وحده..." بل ويلمح "المكي" أيضاً إلى تنازع اليسار الدور مع الإسلاميين، ما ألب على الثورة عناصر الوسط واليمين... الخ. المشهد "الأوكتوبري"، الذي صعّب عليّ "المكي" نسيانه، يسجل فيه بأسى صعوبات معالجة ديمقراطية لعديد من مشاكل الثورة "الجهوية"، إنْ جاز التعبير ومثالها وقتئذ مشكلة الجنوب ومناطق من كل أنحاء السودان ساهمت في الثورة، على أساس"ثوري شعبي" وإذ بها تتحول إلى مجرد مناطق الهامش اليائسة من أهل الحضر في الخرطوم، وهو اليأس الذي يحول التمرد "الوطني" الشعبي كما كان في أكتوبر إلى تحالفات محلية وجهوية، قبلية أو مؤقتة، لأن "ناس أكتوبر" منذ البداية- على ما يبدو- قد أعطوا الثورة طابع الحضرية في المدن الكبرى. استطاع الشاعر والدبلوماسي محمد المكي إبراهيم أن يبلور آراءه بالطبع بعد عقود من أكتوبر فيما عبرت عنها دراسة 2010 لتبقي درساً جديداً لجيل 2011/2013 حين يقول: "أن الافتتان بأكتوبر ليس مصدره حكومتها قصيرة الأجل ومنجزاتها الحقيقية أو المتوهمة، إنما روحها العام ومبادئها المعلنة كحركة مناهضة للديكتاتورية ونجاحها الفريد(ولاشيء ينجح كالنجاح) في اجتثاث نظام عسكري مستعد للبطش وإراقة الدماء، وذلك على أيدي متظاهرين عزل من السلاح. وقد استخدم الثوار "الاكتوبريون" آليات مبتكرة لتحقيق الانتصار بخلطة من إجراءات الإضراب السياسي العام والتظاهر اليومي، ما سبب شللاً لكل مناحي الحياة في البلاد، ووضع الحالة السياسية تحت ضغط الواقع. إن رصيد أكتوبر الديمقراطي المباشر ليس بذي بال، فلم يكن ميسمها الأبرز هو العمل لاستعادة الديمقراطية على طراز حركة "أكينو" في الفلبين، ولكنها أبلغ نجاحاً (وأقدم سابقة) من أكينو، وغيرها من حركات استعادة الديمقراطية. فقد نجحت في استعادة الديمقراطية من براثن العسكريين، وأصبحت بقوة الأشياء الحركة الرائدة في ذلك المجال. ولولا العزلة الإعلامية للسودان وبعده عن بؤر الاهتمام العالمي، لكانت أكتوبر علماً على قدرة الشعوب المغدورة على استعادة الديمقراطية من جيوشها الغادرة. كان الرصيد الديمقراطي لأكتوبر الرسمية جد محدود، فقد أظهرت تهالكاً على السلطة، وكانت على استعداد للتذرع بالضرورات لاستدامة تلك السلطة، ثم أنها أنزلت إلى الشارع بعض الشعارات غير المنصفة مثل قول قائلها:"لا زعامة للقدامى" وهو كفر ديمقراطي بواح.