أدى يوم أمس ملايين الحُجاج الركن الأهم من أركان الحج ألا وهو الوقوف على صعيد عرفة، ملبين دعوة أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام، مقتدين بالنسك والشعائر التي قام بها خاتم الرسل وأشرف الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ملايين المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها جمعتهم الأرض المباركة وأطهر بقاع الأرض. توحَّد جمعهم وكلمتهم وصفهم.. وحتى أن زيهم وملابسهم أصبحت واحدة حتى لا يُميّز فيهم الغني من الفقير، ولا الأمير والوجيه من المسلم العادي. مشهد الحجيج وقد ملئت بهم ساحات عرفة ونقلتهم شاشات قنوات التلفزيون في العالم الإسلامي وهم يرددون التلبية ويلهجون بالذكر والدعاء يبيّن عظمة هذا الدين الحنيف وقدرته على جمع المسلمين على كلمة واحدة سواء لا إله إلا الله. ففي الحج ذابت الفوارق، وانتبذت الخلافات، واضمحلت الانقسامات والانشقاقات في جسد الأمة. ولا ترى فرقاً بين عربي ولا عجمي ولا أبيض ولا أصفر ولا أسود.. ولا فرق أيضاً بين الطوائف ولا المذاهب والملل ولا الاتجاهات. فظهرت الأخوة والتلاحم والترابط، وشاعت روح المحبة، وظهرت قيم الإنسانية والعدالة والمساواة في أبهى صورها. وتجلت أجواء الإيمان والنفحات العاطرة بتلبية وتهليل الحجيج وتسبيح الملائكة.. وخابت فيها الشياطين حتى ما رُؤِيَ إبليس يوماً هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة من كثر ما يعتق فيه الله رقاب المؤمنين من النار. إن المسلمين أحوج ما يكونون في مثل هذه الأيام المباركات العظيمات إلى التحلي والتأسي بروحها والامتثال لقيمها ودروسها وعبرها، بعد أن فرقت في الأمة الاختلافات السياسية وازدادت النعرات والدعوات للانقسام والفرقة. وقد عملت الفتنة بين أبناء الشعب الواحد من الأفاعيل حتى رأينا الأخ يستبيح دم أخيه، والجار يعتدي على جاره، وانتشرت الدسائس والمكائد كلٌّ يريد الغلبة والنصرة لنفسه وإن كان بالعدوان على أخيه المسلم. عندما حج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حجة الوداع شدد في خطبته في يوم النحر على حرمة دم المسلم فقال: «إنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ، كحُرمة يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهركم هذا». واليوم نرى المسلمين قد ابتلوا بفتنة عظيمة بعد أن لجأوا إلى العنف لحل خلافاتهم واستحل بعضهم دم وعرض ومال أخيه المسلم. ولم يتورع من المساس بهذه المحرمات العظيمة والتي هي أشد عند الله من هدم الكعبة حجراً حجراً.. والأدهى عندما تُغلّف هذه الآثمة بغلاف من الدين، ويخرج على المسلمين من شيوخ الفتنة من يحرض المسلم على قتل أخيه المسلم ويعتبره واجباً شرعياً وعملًا بطولياً، ولم يجرؤ في يوم ما على الدعوة لمثل هذا الفعل ضد أعداء المسلمين من الصهاينة المغتصبين لأرض المسلمين ومقدساتهم. إن الحج عبادة عظيمة فرضها الله على المسلم مرة في العمر، وهي كثيرة الدروس والعبر إن تحرّى فيه العبد الإخلاص وصدق النية وسلامة السريرة في العبادة والتقرب إلى الله. وأهم ما في الحج أن يستلهم المرء معانيه ودروسه في الحياة، فيترفع عن الشحناء والبغضاء والكراهية، ويتمسك بوحدة الصف مع أخيه المسلم، وينبذ أسباب الفرقة والشقاق وفساد ذات البين بين المسلمين.