إنّ مناسبة جمع كلٍ من فريد زكريا وولي نصر معاً هي أنهما أميركيان نافذان من أصلٍ مسلم، وقد ألّف كلاهما في مستقبل الولايات المتحدة أو مستقبل السياسة الخارجية الأميركية. وفريد زكريا من أصل هندي، وهو منذ أكثر من عشر سنوات صاعد في عالم الإعلام ووسائل الاتصال. وهو محافظ معتدل (هو الآن مع أوباما!) وقد أيَّد غزو بوش للعراق لأن عنده نقطة الضعف هذه: أنه ليس من أصل أميركي أو أوروبي، وأنه من أصلٍ مسلم. وموطن اعتزازه منذ سنوات أنه هندي المولد وأنّ الهند ناهضة وحليفة للولايات المتحدة. وقد سبق له أن كتب في مستقبل الديمقراطية، واكتشف أنّ الجمهور غير ديمقراطي في الحقيقة، بل يقوده محافظون مثل بوتين أو حزب بهارتا جناتا المتشدد بالهند وهمُّهُ الهويةُ وإقصاء الآخر، وبخاصةٍ في البلدان التي لا تتمتع بمؤسسات ديمقراطية عريقة لحكم القانون وحفظ الحقوق والحريات. وقد صدقت توقعاته باستثناء الهند، لأنه في سنة صدور الكتاب انتصر حزب المؤتمر ونحّى اليمين وأشاع الازدهار الاقتصادي وإن لم يستطع ضبط الأمن ومنع اضطهاد المسلمين! أمّا كتابه الذي اشتهر في الأعوام الأخيرة، وهو يُحدث تأثيراً من جديد في نشرته المليونية الثانية فعنوانه: «ما بعد عالم أميركا». أمّا ولي نصر، فهو ابن سيد حسين نصر، إيراني الأصل، وهاجر قبل الثورة الإيرانية. وكان والده (ما يزال حياً ويكتب) معادياً لآيات الله، ثم ما لبث أن دخل في مهادنةٍ معهم. وقد بدا "اعتداله" هذا في أعمال ابنه ولي نصر، فقد كتب أُطروحته للدكتوراه عن أبي الأعلى المودودي والأصولية السنية، وقال إنها هي التي بادأت الغرب وبادأت الشيعة في شبه القارة الهندية بالعداء. ثم اشتهر كتابه «صحوة الشيعة» عام 2006، والذي بدا بمثابة استحسان للهجمة الإيرانية في كل مكان. وقد اقترب ولي نصر من المحافظين الجدد، وقال بضرورة المصالحة مع إيران، بدليل نجاح التعاوُن بين أميركا وإيران في أفغانستان والعراق. وهو الآن عميد بجامعة جونز هوبكنز، وهي بيئة للمحافظين في العلوم السياسية. وفيها على سبيل المثال فؤاد عجمي. إنما العجيب أن نصر في كتابه الأخير (2012) عن أميركا، يعبّر عن وجهة نظر مختلفة تبدو من عنوان الكتاب: «أميركا التي يمكن الاستغناء عنها: تراجع السياسة الخارجية الأميركية». ويرى كل من زكريا ونصر أن هناك تراجعاً في القوة الأميركية لجهتين: لجهة حجم الاقتصاد الأميركي مقارنةً بما ظهر واستتبَّ من اقتصادات جديدة في آسيا، ولجهة امتداد وسطوة السياسة الخارجية الأميركية؛ فالسياسة الخارجية في عهد أوباما تتراجع في كل مكان، من حيث البلدان والجهات التي «تمونُ» عليها، ومن حيث القدرة على تمرير قرارات في الأُمم المتحدة! ولا يرى أيٌّ منهما أن الموقف ميئوس منه، لكن في حين يرى زكريا أن الإصلاح سبيله النظرة إلى الأمور نظرةً واقعية، يرى ولي نصر أنّ المشكلات الحاصلة سببها تخاذُلُ أوباما وسوء نظرته للأمور. وقد أدى ذلك إلى أمرين اثنين: الابتزاز من جانب روسيا وإيران بشكل رئيس. والأمر الثاني: عجز الولايات المتحدة عن حلّ مشكلات عالمية وإقليمية فعلية تهدد الأمن والسلم الدوليين، ولا يقتصر الأمر على الشرق الأوسط أو القوقاز؛ بل تجرأت أيضاً كوريا الشمالية والصين وجهات أُخرى. ويرى زكريا أنّ سطوة الولايات المتحدة تقوم على التفوق في كل المجالات، ورأسها ثلاثة: العلوم البحتة والتطبيقية، والاقتصاد، وتكنولوجيا وسائل الاتصال. وما تخلّفت الولايات المتحدة ولا ترددت ولا تباطأ تقدمها. لكن أُمَماً أخرى أفادت من تجربتها فتقدمت مثل الصين والهند والبرازيل، وهي جميعاً تسعى لأن تكون شريكةً مأمونةً وموثوقةً للولايات المتحدة. ومن الطبيعي أن تكون الصين أصعب مراساً من ماليزيا أو إندونيسيا أو جنوب أفريقيا؛ لكنّ ذلك لا يعني أنّ علينا مصارعتها ما دامت مقارباتها الأساسية موضوعية ويمكن التعامُلُ معها. إن المشكلة مع الولايات المتحدة أنها ما أدركت أنها خرجت من الهيمنة والأحادية منذ ما آتت حروب أفغانستان والعراق أُكُلَها. هناك من يقول: كان على أميركا ألا تخوضَ هذه الحروب. وهناك من يقول: صحيح أنّ الحروب خسّرتْنا كثيراً في المال والرجال وزادت التحديات لهيبتنا، لكن الأمر كان سيحصل (أمر ظهور الشركاء الجدد) ولو بعد بضع سنين. ما تغيَّر واقع التفوق الأميركي، لكنه ليس تفوقاً مطلقاً، بل هو تفوق نسبي يقتضي الاعتراف بنسبيته من جانب الساسة الأميركيين. وسيكون ذلك صعباً لأنه يقتضي إيجاد إدارة جديدة للعالم مكوَّنة من 15 أو 20 دولة، أميركا فيها بمثابة «أول بين متساوين»! أما ولي نصر فيعترف بالمتغيرات الاقتصادية والجيواستراتيجية من حول الولايات المتحدة. لكنها لا تقتضي هذا التخاذل وهذا الانكفاء الذي أضرَّ أكثر مما أضرّت الحروب والغارات. يستعرض نصر «الساحات» الاقتصادية. والجيواستراتيجية، مثل الصين وشرق آسيا، والمواطن الأُخرى الناهضة. وفي الجيوسياسيات يدرس سلوك إيران في الشرق الأوسط وسلوك روسيا الجديد، وسلوك كوريا الشمالية، والأهمّ سلوك الجمهوريات اليسارية في أميركا اللاتينية. وهو يعترف بأن التراجعات كان بعضها ضرورياً تحت وطأة الرأي العام الأميركي الذي كره التدخلات الخارجية بعد أفغانستان والعراق. والصبر على الصين مبرَّر أيضاً لأن الشراكة معها ضرورية. لكنّ هذا شيء، والتراجُعات غير المبرَّرة شيء آخر. فقد كان التعاوُن أو التهادن مع إيران صحيحاً عندما كنا محتاجين إليها إبّان حربي أفغانستان والعراق. وقد أفادت هي كثيراً من الناحية الاستراتيجية. لكنه أمر غير مَبرَّر أن نترك لإيران العراق وسوريا ولبنان، وأن نترك إسرائيل تحت التهديد الإيراني، وكلُّ ذلك لأننا لا نريد تقليد سياسات بوش، ولا نريد دفع إيران للتمرد أكثر. فهذه السياسات هي التي جرَّأتْ إيران أكثر، فصارت تعتبر نفسها زعيمة جبهة المواجهة مع إسرائيل. وقد حسِب كثيرون أنّ إيران إنما تريد التعظيم من شأن هذه الأوراق لتعمل مبادلةً مع النووي. ويقول نصر إنه يعرف الذهنية الدينية والقومية الإيرانية، إذ هي تُحوِّلُ كلَّ مسألةٍ إلى ملف عقائدي. فإيران ترى أن السيطرة على البلدان العربية حق لها، كما أن مواجهة إسرائيل حق لها، وأخيراً فإنّ النووي (السلمي) حقٌّ لها! لذلك لا ينبغي التنازُلُ عن أي شيء في مواجهتها، لا في النووي ولا في مناطق النفوذ (العربية). وما استطاعت الإدارة الأميركية فعل شيء حيال إيران باستثناء الحصار. بينما تقول تقارير إدارتي بوش وأوباما إنّ إيران تريد إنتاج سلاح نووي، وهي أكبر رُعاة الإرهاب في العالم، ولا تبيح أي معارضة بالداخل. وآخِر ما فعلته إيران هذا الدعم المنقطع النظير للأسد ونظامه وجرائمه. فحتى المحافظ الجديد الآخر، وزميل نصر: فؤاد عجمي، ما تحمّل ما يجري في سوريا، وكتب كتاباً عن الثورة السورية. وإذا كانت السياسة تجاه إيران في أيام أوباما غير منطقية ومؤثرة على هيبة الولايات المتحدة؛ فإن سياساته تجاه روسيا دليل آخر على آثار التلكؤ والتخاذُل. فقد انتصرت روسيا في القوقاز وآسيا الوسطى على كل التوجهات الديمقراطية. ثم ها هي تنتصر في سوريا. ولذلك ينبغي تصحيح هذه السياسة دونما حاجة لشن حروب، وإنما بعدم السعي للتوافق بأي ثمن. كتابا نصر وزكريا بارزان ومؤثّران. ويبدو أنّ زكريا مؤثرٌ بالفعل في طرائق أوباما في التفكير والتصرف. لكن الرجلين يظلان غريبين لدى النُخَب الأميركية من الحزبين، وفي الحالتين: حالة الحماس الشديد، وحالة النفور الشديد.