لا مكابرة أو إنكار لحقيقة أن العالم العربي اليوم يخوض مرحلة يكتنفها الغموض بعد تعاظم المناكفات بين القوى والكتل السياسية المتصدرة للمشهد السياسي، وما ترتب على ذلك من إرباك واختلالات في الوضع السياسي جاءت بالفوضى والاضطراب. من هنا تظهر أهمية المراجعة المستمرة للبرامج السياسية لتشخيص أسباب الفشل وتحليل واستقراء الواقع السياسي. وعلى القوى السياسية أن تؤمن بـ«لم الشمل» لا «الإقصاء». فإقصاء حركة أساسية في المجتمع من المشهد السياسي ومحاولة تجريم وجودها هو توجه غير صائب، ذلك أن التعامل الأمثل مع المفاهيم والأفكار يكون بقوة الحجة والقدرة على المنافسة وليس عبر الإقصاء. وكما يؤكد الكاتب البريطاني روبرت فيسك، مراسل صحيفة «الاندبندت» البريطانية في الشرق الأوسط فإن «إقصاء الإخوان المسلمين وأنصارهم من العملية السياسية في مصر أمر ستكون له تداعيات سلبية على المجتمع المصري، لأنهم فصيل من الطبيعي أن يكون له دور في العملية السياسية، لأن الإخوان وصلوا للحكم بطريقة ديمقراطية يدافعون عنها حتى الآن». وفي كل الثورات والحركات السياسية الراشدة في العالم، تجري مراجعة للمواقف والاحتمالات. هناك دائماً حاجة إلى التقييم الصريح للمواقف ولا ضير في الإعلان عن التراجع عن بعضها، إن لم تثبت صحتها أو لم تحقق الأهداف المرجوة. وفي هذا يقول الدكتور «رحيل غرايبة»، في مقال بعنوان «القوى السياسية وضرورة المراجعة»، إن «وقفة المراجعة محطة ضرورية لجميع القوى السياسية بلا استثناء، من أجل الإسهام في التقويم الجمعي لما آلت إليه الأوضاع في الدول العربية والإسلامية، ومن أجل الإسهام في محاولة وقف الاقتتال الداخلي ووضع حد لحمام الدم الذي تغرق فيه عواصم العرب وحواضرهم الرئيسة في بغداد ودمشق والقاهرة، وعلى طريقها صنعاء وطرابلس وبيروت وغيرها». وهذا، طبعاً، دون تجاهل ما يشهد به البعض من أن التحولات في بلدان «الربيع العربي» تختلف إلى حد كبير عما شهدته دول في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وبعض الدول الأفريقية في العقود الثلاثة الماضية، وهو ما أكدته «كريستين لاجارد»، مديرة صندوق النقد الدولي حين قالت في كلمة ألقتها في واشنطن قبل الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدولييين، الأسبوع الماضي، «إن التحولات في دول الربيع العربي قد تكون الأصعب والأطول في العالم». علينا أن نتفق أن التشاركية، وليس الإقصاء، هي الحل الذي تحتاجه القوى السياسية العربية اليوم. ويقول الكاتب «عريب الرنتاوي»، رداً على مقال الناطق باسم جماعة «الإخوان المسلمين» المصرية، الدكتور حمزة زوبع، إنه «أياً يكن الأمر، فإن ما صدر من مواقف ومراجعات وما تبدّى من ليونات في مواقف الجماعة، يتعين النظر إليه، بوصفه يداً ممدودة، نأمل أن تقابل بيدٍ ممدودة من خصومها ومجادليها. ومن ذلك يتضح أنه لا بديل عن التشاركية، فهي نموذج سياسي يعزز دور المواطن، كل مواطن، ودور الحزب، كل حزب، في اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي، ونجاح التشاركية يكون -في الأغلب الأعم- عبر الانتخابات والتمثيل النسبي. فالانتخابات هي الأساس الجامع، ومنطقها هو المنطق الذي يجب أن يسود هذه الأيام، حيث المطلوب مشاركة الجميع للوصول إلى الوحدة، والنجاح في تجميع الطاقات. والمحافظة على الانتخابات الدورية والنزيهة (ونكرر الدورية والنزيهة) في أي نظام سياسي علامة صحة لذلك النظام، ومكون مركزي في ديمقراطيته، إذ تهدف الانتخابات إلى توفير آلية للتداول السلمي على السلطة وتقنين التنافس والصراع بين المجموعات السياسية في إطار الكيان السياسي الواحد. ومن هذا المنطلق، لا يوجد سبب يمنع الغالبية من السيطرة المرحلية (وليس الأبدية)، شريطة ألا تجد كتلة المعارضين نفسها مضطرة إلى الانسحاب من العملية برمتها. إن التوصل إلى توافقات، أساسية وتفصيلية، بين الفرقاء السياسيين هو الضامن لنجاح أي انتخابات، إن كان هدفها بالفعل بناء الوطن عبر تعزيز السلم الاجتماعي وإلغاء الأحقاد السياسية والطائفية وتنقية الأجواء. ذلك أنه حين تنطلق كل الأطراف، في تعاملاتها، على أساس هذا المبدأ، عندها تتوافر المناخات الاجتماعية والأمنية والسياسية الملائمة للتوافق على ميثاق عمل ملزم، وهو المطلب الأول والأهم للخروج من أي مأزق أو أزمة يواجهها أي مجتمع أو دولة. أما الحل الآخر (الإقصائي)، فنتائجه رأيناها على الأرض، سواء في مصر أم سوريا أم فلسطين، أم في الجزائر خلال تسعينيات القرن الماضي. وبالمقابل، فنحن لا ندعو إلى الليبرالية الكلاسيكية الغربية، ذلك أن المجتمعات العربية غير جاهزة لها بعد. ونرى أن المرحلة الحالية، بظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمذهبية، تتطلب بروز «الحكومات الائتلافية الجامعة» التي أساسها الانتخابات ونتائجها، حينها لا يمكن لأحد أن يظن أنه يستطيع أن يحكم بنفسه دون الآخر وإلى الأبد! فالحكومة الائتلافية الجامعة أو وزارة الوحدة الوطنية الائتلافية تشترك فيها الأحزاب البرلمانية جميعها (أو غالبيتها الساحقة) كما هو الحال حين تتشكل، في أوقات الأزمات كحالات الحرب أو الأزمات السياسية أو الاقتصادية الكبرى، بحيث تقوم الأحزاب بتشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة تحالف كبير إن لم يكن تحالف إجماع أو شبه إجماع. وهذه الأخيرة، في حالتنا الراهنة، تحقق أهدافاً أكثر مما يتم غالباً عند تشكيل الحكومات الائتلافية في البلدان التي يكون نظامها الانتخابي يعتمد مبدأ التمثيل النسبي، باعتبار أن الحكومة الائتلافية تقود إلى مزيد من التوافق في السياسة، أي أن الحكومة المؤلفة من عدة أحزاب (وغالباً ما تكون مختلفة فكرياً وأيديولوجياً) يجب عليها الالتزام بالميثاق الوطني. كما أن الميزة الكبيرة الثانية تتمثل في أن الحكومة الائتلافية هي وحدها القادرة على «درء المفاسد، وجلب المنافع» في وجه التحديات المجتمعية والاقتصادية والسياسية والأمنية التي تجابهها دول «الربيع العربي».