أصبحت الأزمة المستعصية التي ترتبط بإقرار مشروع الميزانية الفيدرالية وسقف الدين العام، واحدة من أخطر الأزمات الدستورية التي تواجه الولايات المتحدة منذ الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل عام 2000، (والتي تنافس فيها بوش الإبن عن الحزب الجمهوري، وآل جور عن الحزب الديموقراطي وشهدت جدلاً كبيراً حول الفائز الحقيقي فيها بسبب التقارب الكبير في نسب المصوتين لكلا الرئيسين وفاز فيها بوش بفارق ضئيل). وإذا لم يتم التصويت لصالح تمويل الحكومة وزيادة سقف ديونها، فسوف نشهد كارثة مالية عالمية خلال الأسبوع الثالث من شهر أكتوبر الجاري وبالضبط في السابع عشر منه، حيث سيتم التصويت على مشاريع الحلول المقترحة. وقد تؤدي هذه الأزمة إلى المسّاس بسمعة الولايات المتحدة في العالم أجمع، وسيكون لهذه الكارثة أثر بالغ السوء لا يمكن إصلاحه على مستقبل إدارة أوباما ومعارضيه من الحزب «الجمهوري» على حد سواء. وبرغم أن هناك كثيراً من الشجب الذي ينبغي توجيهه لكل المتسببين في هذه الأزمة، فإن لجوء الأقلية من «الجمهوريين» ذوي الخط المتشدد في مجلس النواب للربط بين أي زيادة في تمويل الميزانية الحكومية باقتطاعات مقابلة من برنامج الرعاية الصحية الذي اقترحه أوباما، هو السبب الأساسي للأزمة فيما يكمن الحل البديل الأقل خطورة في زيادة سقف الدين العام للحكومة بالاقتراض من الخزينة الاحتياطية الفيدرالية «البنك المركزي الأميركي». وإن لمن المؤكد أن أوباما لن يسمح بالتفريط في قانون الرعاية الصحية «أوباماكير» الذي يعتبره أحد أهم إنجازاته، وخاصة بعد أن بدأ العمل ببعض بنوده خلال الأيام القليلة الماضية. وليس من المبالغة في شيء القول بأن حكومة الولايات المتحدة باتت رهينة في أيدي أصحاب الفكر اليميني المتشدد الذين يحتلون (المقاعد الآمنة) Safe Seats في الكونجرس والضامنين لتجنّب خطر السقوط في الانتخابات النصفية المقبلة التي يُنتظر إجراؤها عام 2014. وهذا لا ينطبق على مواقف العديد من «الجمهوريين» المعتدلين الذين عبروا عن استعدادهم للتصويت لصالح بقاء الوكالات الحكومية الاتحادية مفتوحة، كما وافقوا على رفع سقف الدين العام ولكنهم معرّضون للهزيمة في الانتخابات النصفية المقبلة. وبلغت قيمة العجز في الميزانية الحكومية خلال العام الجاري 901 مليار دولار أو ما يعادل 5.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. وهو يمثل الفرق بين مجمل الإنفاق العام ومجمل العوائد الحكومية. وفي ظل هذه الظروف المعقدة والحرجة، قد يتمكن «الديمواقراطيون» من استعادة الأغلبية في مجلس النواب. ولهذا السبب أصبح غضب الحزب «الجمهوري» على المتطرفين من أعضائه لا سابق له في تاريخ السياسة الأميركية. وإذا كان هناك ثمّة من حل لهذه الأزمة، فربما يأتي من زيادة الضغط على رئيس مجلس النواب، وهو «الجمهوري» جون بوينر من طرف الزعماء «الجمهوريين» من الحرس القديم لإقناعه بالسماح للنواب بالتصويت على الميزانيتين من دون اللجوء إلى خيار الاقتطاع المالي من ميزانية قانون الرعاية الصحية. وقال بوينر بأنه لن يسمح للولايات المتحدة أن ترزح تحت عبء ديونها المستحقة ولكنّه لم يوضح نوع الحلول الوسطى لهذه المشاكل التي قد يقبلها من أوباما. ولقد عمد أوباما ومعه النواب الديموقراطيون منذ مدة طويلة إلى رفض الحلول الوسطى جميعاً، وهم يعتقدون أن بوينر لن يكون أمامه من خيار آخر غير التصويت لصالح الحلول التي يقترحها «الديموقراطيون». إلا أنهم قد يتعرضون إلى مخاطر متعددة وأن لا يتركوا أمام «بوينر»، أي استراتيجية سياسية مقبولة للخروج من الأزمة. ولا يوجد إلا القليل من الشك في أن «بوينر» يمكنه متى شاء أن يجمع من أصوات «الجمهوريين» المعتدلين بالإضافة لمعظم أصوات «الديموقراطيين» أو كلها من دون استثناء، ما يكفي لإعادة فتح أبواب الوكالات الحكومية والبدء بطرح الحلول الناجعة الممكنة للخروج من الأزمة كلها. وفيما تسعى واشنطن إلى مكافحة أسباب الحروب الأهلية التي تندلع في بلدان عديدة من العالم، فلقد أصبحت تعيش بذاتها ما يشبه الحرب الأهلية المصغّرة داخل الكونجرس، وبما يمكن أن يسيء أكبر الإساءة لسمعتها كدولة حامية للديموقراطية والسلم المدني في العالم أجمع. وكانت لهذه الأزمة نتائجها السيئة على الاستراتيجيات السياسية الخارجية للولايات المتحدة. فلقد اضطر أوباما بسببها إلى إلغاء رحلة عمل مهمة إلى آسيا تشتمل على عقد قمتين سياسيتين، وهو الإلغاء الذي اعتبره المحللون والسياسيون بمثابة الإشارة الخاطئة الموجهة إلى حلفائه وأنداده على حد سواء في شرق آسيا وخاصة الصين. ويأتي كل هذا في وقت اعتمدت فيه الولايات المتحدة أولويات لاستعادة التوازن الاستراتيجي في دول المنطقة بعد بضع سنوات من خوض الحروب والاهتمام بالمشاكل التي لا تنتهي في الشرق الأوسط وأفغانستان. وفضلاً عن الانهيار الاقتصادي الذي ستشهده بقية دول العالم إذا ما سقطت الولايات المتحدة تحت عبء ديونها وإغلاق وكالاتها الحكومية الفيدرالية، فسوف تفقد موقعها كدولة استثنائية متميزة مثلما وصفها الرئيس أوباما، وستهتزّ سمعة النموذج الحكومي الديموقراطي الأميركي برمته. فكيف يمكن للولايات المتحدة أن تدعو لإحلال الديموقراطية في مصر وبعض البلدان الأخرى في الوقت الذي نرى فيه ديموقراطيتنا ذاتها تتعرض لأخطار جسيمة بسبب احتمال انهيار النظام المالي العالمي برمته؟. هذه هي الأسئلة التي ينبغي على كلا الحزبين السياسيين في واشنطن البحث فيها بكل مسؤولية إذا أرادا أن تبقى الولايات المتحدة اللاعب الأول في النظام العالمي الجديد.