هناك محاولات من المراقبين والمحللين لتفسير السلوك السياسي الإيراني في مسألة الانفتاح على الولايات المتحدة، باعتباره الحدث الأكثر أهمية على مستوى العالم، وليس على مستوى دول الخليج العربي فقط. وتتركز تلك المحاولات حالياً في سؤالين: الأول، من الذي رفض اللقاء «العابر» في ممرات الأمم المتحدة الذي رُسم له سيناريو لافت: روحاني، الرئيس الإيراني الجديد، أم أوباما الذي يبدو أنه بدأ فعلا تطبيق سياسته الخارجية بالانفتاح على الجميع؟! السؤال الثاني: من كان صاحب المبادرة في طلب الاتصال بالآخر؟ مستشارة الأمن القومي الأميركي، سوزان رايس، تقول إن الإيرانيين هم من طلب ذلك. ولا أستبعد أن تنكر إيران ذلك بالطبع، لكني أميل إلى تصديق الأميركيين، لأن اختلاف ما يقال خلف الأبواب المغلقة عما يقال في وسائل الإعلام هو سمة إيرانية يمارسها ساستها بحرفية، حتى مع دول المنطقة. وفي حالتنا هذه يمكن أن يكون التفسير الأقرب هو قبول إيران «أقل الضررين»- اللقاء والمكالمة- باعتبار أن اللقاء أُفسد بتدخل «الحرس الثوري». الغموض والإنكار من بين الصفات الثابتة للدبلوماسية الإيرانية في التعامل مع الآخرين، وهذا أحد مظاهر معاناة دول جوارها الجغرافي جميعاً، وليس دول الخليج فقط. وهاتان الصفتان أقرب إلى أن تكونا من بين السمات الملازمة لمن يعملون في المؤسسات الأمنية، ويوضح ذلك أن الذين يديرون إيران ليسوا سياسيين بقدر ما هم أمنيون. وإذا طبّقنا هذا التفسير على «بيروسترويكا» روحاني، فسوف نجد أنه أحد من عملوا في المؤسسات الأمنية للنظام الإيراني، وهو أمر أراه مهماً في استشراف السياسة الإيرانية القادمة والتعامل معها؛ إذ يجب أن نتعامل مع القيادة الجديدة باعتبارها تجيد «فن الخداع» والإنكار. هذه هي أولى النقاط التي تداعت إلى ذهني بمجرد أن قرأت خبر الاتصال في الصحف العالمية، والتي توالت بعدها «توهمات» المحللين حول الطرف الذي طلب إجراء المكالمة. ومن خبرة كثير من المواقف التي اسخدمت فيها إيران تكتيك «الغموض السياسي»، أستطيع التأكيد على أن هذا التكتيك هو سبب كل الخلافات، وأن الإسراف في استخدامه لا يخدم النظام الإيراني ولا الشعب الذي يتحدث روحاني عما ينتظره منه. وللتذكير فقط، فقد أنكر وزير الخارجية الإيراني أن تكون لزيارة السلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان إلى طهران، أول رئيس دولة يزور إيران بعد فوز روحاني بالرئاسة، علاقة بالوساطة بين واشنطن وطهران، بل أضاف الوزير، وهو المتمرس سياسياً في الغرب، أن سلطان عمان أكبر من «الوساطة». والحقيقة أنني لا أجد سبباً يجعل القيادة الإيرانية تزدري الرأي العام في الداخل والخارج، وتكذب عليه هذا الكذب المكشوف، على الأقل من منطلق أن الجميع كانوا يدركون ما وراء الزيارة. إن العلاقة بين السياسة الإيرانية والغموض أكبر من كونها مناورة إعلامية أو دبلوماسية تُستخدم أحياناً للتعاطي مع الآخر. فهذا السلوك ليس وليد اللحظة، وقبل أن يكون «الغموض» سلوكاً سياسياً فهو أيديولوجي مرتبط بالعقيدة الشيعية، وهذا حديث أنقله عن تصريحات عطاء الله مهاجراني، وزير الإعلام والثقافة في حكومة خاتمي، بل انه يسترسل قائلاً إن «التقية السياسية» يُحبَّذ استخدامها في العقيدة إذا كانت الدولة تواجه صعوبات. وأعتقد أن مثل هذه المرونة في السياسة الإيرانية قد تساعدها مستقبلا على مواجهة كثير من المواقف والصعوبات إن شئت. في تسعينيات القرن الماضي، وخلال مفاوضات دولة الإمارات مع إيران لاستعادة الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة، أبوموسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى؛ لقي المفاوض الإماراتي كثيراً من المعاناة بسبب غموض الطرف الآخر، وكان هذا الغموض يعرقل أي تحرك إلى الأمام، في دلالة على انعدام رغبة إيران في إيجاد حل للخلاف. كما تصاحب هذا الغموضَ حالةٌ من الإنكار، ويعني ذلك أننا يجب أن نعدّ أنفسنا للتعامل مع هذه الثنائية الإيرانية المرهقة. وبالتالي فإن الحصول على اعتراف بسلوك سياسي إيراني معين، يكاد يكون شبه مستحيل، كما أن بث الثقة، إحدى أهم أدوات الانفتاح على الآخر، أمر غائب عن السلوك الإيراني تماماً. القلق والمصداقية في السياسية تعطيان مؤشراً مهماً للسياسة الدولية قبل الداخل الإيراني وجواره في نجاح الانفتاح الحقيقي من عدمه. فالأمر يقدم تفسيراً لتغير الاستراتيجية الإيرانية الجديدة التي أظن أنها لن تتغير، ولكنها تريد تحقيق هدفين: أولهما تخفيف حالة الضغط السياسي الداخلي الناجم عن سوء الأوضاع الاقتصادية بسبب العقوبات. وثانيهما هو إشغال الرأي العام العالمي، والخليجي تحديداً، عما تنوي إيران فعله خلال الفترة القليلة القادمة. هذه هي السياسة الإيرانية كما عودتنا. النقطة المهمة التي ينبغي التركيز عليها في التحليل، أن الإصلاحيين في إيران كثيرو «الابتسامات»، ويستخدمون مفردات «لينة» في التخاطب مع الآخر، لذا يجب علينا معرفة نوعية «الابتسامة» وفهمها بشكل صحيح، خاصة عندما يختلف السلوك الفعلي كثيراً عن مضمون هذه الابتسامات، وهذا مؤشر مهم في فهم طريقة التعامل مع القيادة الجديدة. وعلى الإدارة الأميركية أن تستفيد ممن يعرفون السلوك الإيراني جيداً، وألا تكون ساذجة كما حدث في حربها ضد حركة «طالبان» في أفغانستان، عندما أبدى الإيرانيون نيات التعاون، وكانت النتيجة خسارة الأميركيين لحربهم، وتكرَّر المشهد في العراق، وكان الإخفاق أكثر صعوبة. إن استعراض هذا المقال لخبرة التعامل مع إيران، يقود إلى الاستنتاج التالي: إذا كان الخليجيون يفكرون في التعامل مع إيران في مرحلة الانفتاح على الولايات المتحدة والعالم، فالواضح أنه لن يهدأ للسياسيين الإيرانيين بال إلا إذا حققوا أهدافهم التي أعلنوها منذ أيام الثورة الخمينية، والمتمثلة في تصدير الثورة، وأن تكون هي المرجعية في المنطقة.