يتحدثون عن الرئيس الإيراني، وكيف استطاع خلال فترة وجوده في نيويورك لإلقاء خطابه بالجمعية العامة للأمم المتحدة، أن يسحر أوباما ورجاله، بمعسول الكلام حول أهداف البرنامج النووي الإيرانية السلمية! الأمر الذي دفع الرئيس الأميركي وفريقه إلى اقتناص فرصة وجوده لمحادثته هاتفياً -إذ تعذر اللقاء والمصافحة- والتباحث معه لإيجاد (حل شامل) للقضية. الحقيقة أنه لا سحر ولا ساحر في أمور السياسة والعلاقات الدولية إلا على من عنده القابلية والاستعداد لهما، وهذا هو الحاصل اليوم في الساحة الأميركية في عهد رئيس لديه القابلية لتصديق أن البرنامج النووي الإيراني (سلمي) الأهداف، وأن النظام الإيراني ملتزم بفتوى الخميني بتحريم تملك السلاح النووي (شرعاً)، وهي ما اتكأ عليه الرئيس الأميركي في خطابه أمام الجمعية العامة يوم 29 ديسمبر الماضي والمدهش أن أوباما ورجاله وكتاباً وباحثين في مراكز بحثية أميركية، لطالما أشاروا إلى هذه الفتوى النووية المحرمة محاولين إقناع الرأي العام الأميركي بأن إيران ملتزمة بها، واستطاعوا مؤخراً تحقيق نتائج ملموسة، بدليل أن أغلبية الأميركيين اليوم تؤيد مفاوضات مباشرة مع إيران -بحسب الاستبيان الذي أجرته CNN مع ORC للاستطلاعات- ما الذي دفع إيران إلى تغيير أسلوبها الدبلوماسي مع «الشيطان الأكبر»؟ تحدث المراقبون عن تأثير العقوبات المفروضة على إيران، وعن الضغوط الداخلية، باعتبارهما عاملين ضاغطين في تبني إيران لما سماه المرشد الأعلى (مرونة الأبطال) بهدف تخفيف تأثير العقوبات، وفك حلقات الحصار الاقتصادي عليها، ولكني أعتقد أن الدافع الأكبر لهذا التوجه، هو تصوّر القيادة الإيرانية أن أميركا -اليوم- تمر بمرحلة سياسية واقتصادية، هي الأضعف تاريخياً، يجب استثمارها لصالح البرنامج النووي الإيراني الساعي حثيثاً لتحقيق الحلم القومي الإيراني في تملك السلاح النووي. وتعتقد القيادة الإيرانية أن هذه هي اللحظة التاريخية التي عليهم اغتنامها، فهم قد درسوا ملياً نفسية ساكن البيت الأبيض، وتأكدوا أنه مصاب بحالة الرهاب من التدخل العسكري، والخوف من المواجهة، وتأكدت قناعة الإيرانيين بعد تراجع أوباما عن الضربة العسكرية للنظام السوري لتعديه الخطوط الحمراء بضرب الغوطة بالكيماوي، هذا هو العامل الأهم وراء الانفتاح الإيراني على العدو الأميركي. قال خامنئي في خطاب له أمام مجلس صيانة الدستور في 5 سبتمبر الماضي بعد تزكيته لروحاني عشية توجه الأخير لنيويورك: عندما يمارس المصارع مهنته في مواجهة خصم، ويعمد إلى إظهار بعض المرونة لأسباب (تكتيكية) عليه ألا ينسى من هو هذا الخصم.. وأضاف: حتى الأعداء يبتسمون في وجه بعض.. فلا سحر في المسألة وإنما استغلال جيد لنقطة الضعف الأساسية في السياسة الأميركية الحالية، ومن ثم ضرب روحاني على الوتر الحساس الأميركي وهو كراهيتهم لسياسة التدخل والمواجهة، ولذلك طالب في خطابه الرئيس الأميركي تجاهل الدعوات إلى الحرب وإعطاء الأولوية للتفاوض مؤكداً أن الأسلحة النووية لا مكان لها في عقيدة الدفاع الإيرانية، لأنها تتنافى مع القيم الدينية الإسلامية! نجح روحاني في مهمته التبشيرية وإن كان «المحافظون» المهيمنون لم يعفوه من حملة التقريع واللوم لأنه سمح بتلقي مكالمة الرئيس الأميركي، مما استوجب تدخل المرشد الأعلى لشد أزره أيضاً إرضاء خصومه بقوله (بعض ما حدث بنيويورك غير لائق)! نجح روحاني في كسر الحاجر النفسي واستجاب ليد أوباما الممدودة منذ سنوات وابتلعت الإدارة الأميركية الطعم أو هكذا تظاهرت، إذ جاءهم من يبيع لهم كلاماً معسولاً، هم له متقبلون ومتشوقون (سلفاً) طبقاً لراغدة درغام. لذلك لا نعجب من حماسة كيري -وزير الخارجية- وتلهفه على (صفقة نووية سريعة) مع طهران في أقل من 3 أشهر، فحماسته من حماسة رئيسه الذي يريد «إنجازاً خارقاً» عجز عنه السابقون! وعندما يقول كيري في برنامج (60) دقيقة على CBS: إنه برنامج سلمي، ويمكن لنا جميعاً أن نرى ذلك... العالم كله يرى ذلك، فهذا معناه الوحيد أن الإدارة الأميركية قد عقدت العزم على عقد صفقة سياسية سريعة وبأي ثمن. أما نتنياهو المحذر للأميركيين من (الذئب في ثوب الحمل)، فهم كفيلون بطمأنته! أما حرص الإدارة الأميركية على تكرار القول بأننا نريد أفعالاً لا أقوالاً، فمجرد تصريحات مُرسلة.. ودعونا نتساءل: هل -فعلاً- لا تدرك أميركا، حقيقة البرنامج النووي الإيراني؟! ألا تعلم -فعلاً- طبيعة النظام الإيراني الأيديولوجي الشمولي؟ هل تعتقد -فعلاً- أن بيد المرشد الأعلى «مفتاح النووي» وحده؟! لا أتصور كل ذلك، بل أرى أن أميركا مدركة -تماماً- طبيعة وأهداف البرنامج النووي الإيراني، إذ لا يعقل أن تخوض إيران حرباً ضروساً وتجوع شعبها وتصرف المليارات وتضحي سنين طويلة وتواجه العالم أجمع من أجل برنامج نووي سلمي! العشرات من الدول لديها (النووي السلمي) ولا مشكلة لديها مع أحد لأن منشآتها مفتوحة للتفتيش الدولي، وتعمل بشفافية مطلقة، فلماذا تكون المشكلة مع إيران وكوريا الشمالية بالذات؟ لأن العالم وأميركا جميعاً يعلمون أن المعامل التي تعمل بأقصى طاقاتها وبنسب تخصيب تتجاوز الـ2 في المئة، لا يمكن أن يكون هدفها (سلمياً) الطاقة الكهربائية ليست بحاجة إلى هذه النسب من التخصيب! هذه النسب تستخدم -فقط- لإنتاج أسلحة نووية. أما فتوى الإمام الخميني ومن بعده خامنئي بتحريم تملك النووي، فلا يصدقها أي مسلم لأنها مخالفة صريحة لقوله تعالى، (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، من قال إن الإسلام يحرم تملك السلاح النووي لردع الأعداء من مهاجمة الدول الإسلامية؟! باكستان الإسلامية امتلكته، فهل أصدر شيخ دين فتوى بتحريمه؟! هل وصلت (السذاجة) بالأميركيين، تصديق هذه الفتوى التي قصد بها (التقيّة) أي -أن تظهر خلاف ما تبطن- والتي تشكل ركناً أساسياً من العقيدة الدينية للمذهب الاثني عشري والتي توجب على الفرد والمجتمع والقيادة إعمالها للمصلحة الوطنية والدينية. على أميركا أن تعلم -وهي تعلم حقاً- أن أي نظام أيديولوجي شمولي -كإيران وكوريا الشمالية- يخشى على بقائه واستمراره من الجميع، فلا ثقة له بأحد، ثقته الوحيدة في قوته العسكرية، وأهم ما يعزز هذه القوة هو «السلاح النووي». كما أن عليها أن تعلم أن تملك السلاح النووي أصبح اليوم -وبسبب الشحن الإعلامي المستمر بتخويف الشعب من مؤامرات الأعداء وعلى رأسهم الشيطان الأكبر- ليس مجرد نهج وسلوك للقيادة، بل أصبح «عقيدة» وطنية وقومية ودينية راسخة لدى كافة مكونات وأطياف الشعب الإيراني، لا فرق بين «محافظ» و«إصلاحي»، ولا يملك أحد، بمن فيهم (المرشد الأعلى) أن يفرّط فيها أو يساوم عليها أو يتنازل عنها، وإلا اتهم بالخيانة العظمى! أخيراً: لا يمكن لإيران أن تضحي بالنووي وقد تحملت في سبيله ما لم تتحمله أمة، وبخاصة أن البرنامج النووي قاب قوسين أو أدنى من الولادة وتحقيق الحلم التاريخي القومي.