توقفت مدافع الحرب الأهلية اللبنانية منذ قرابة ربع قرن، لكن أزمة لبنان لا تزال تراوح مكانها، وإن بأدوات سياسية واقتصادية للصراع. ربما هكذا يعتقد الدكتور جورج قرم في أطروحته الرئيسية حول الحالة اللبنانية، والتي ضمّنها في كثير من مقالاته وكتبه حول لبنان. وفي كتابه الذي نعرضه هنا، «نظرة بديلة إلى مشكلات لبنان السياسية والاقتصادية»، يقدم قرم مجموعة من الدراسات والمقالات المتعلقة بلبنان وما مر به من أحداث جسيمة خلال العقد الماضي. يتألف الكتاب من قسمين؛ يتعلق أولهما بالأوضاع السياسية، وثانيهما بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ويضمان معاً بعض المعالجات الممكنة خارج الإطار التقليدي للثقافة السياسية والاقتصادية اللبنانية، حيث يعتقد قرم أن الشعور باستعصاء المشكلات المطروحة على الحل، مرده إلى أنها لم تطرح أصلاً بالشكل الصحيح، وأن الثقافة السياسية والاقتصادية اللبنانية، التي أصابها التحجر، تحول دون استكشاف الطرق المؤدية للخلاص من المشكلات المزمنة منذ قرنين تقريباً. ويحاول قرم إيجاد تفسير لسوء الأداء السياسي والاقتصادي الذي يحرم المواطن اللبناني من التمتع بتوافر الخدمات الأساسية، كالماء والكهرباء، على امتداد وطنه الصغير، رغم ما أنفقته الدولة بحجة الإعمار، وما استدانته من مبالغ كبيرة، ورغم مواردها الضخمة، البشرية (الكفاءات والخبرات) والطبيعية (الماء والتربة الخصبة). ثم يقدم تحليلاً نقدياً للمنظومة الفكرية اللبنانية، لاسيما ذلك الصراع العتيق بين أنصار الوظيفة الخدماتية للبنان وأنصار نظرية الإنماء المتوازن. فقد عرفت الساحة الفكرية اللبنانية جدلاً عنيفاً في بداية عهد الاستقلال بين دعاة تحول لبنان إلى اقتصاد متخصص في خدمات السمسرة والسياحة والصيرفة والتجارة من جهة، وبين الداعين إلى ضرورة تطوير الاقتصاد اللبناني بكل إمكانياته وموارده الطبيعية والبشرية من جهة أخرى. وقد رأت المدرسة الأولى، وكان مصدر إلهامها المفكر السياسي ميشال شيحا، أن صغر الاقتصاد اللبناني وحجم سوقه الداخلية المحدود لا يسمحان بإقامة الصناعات فيه، وأن الهجرة هي المتنفس الحتمي للزيادة السكانية، وأن الميزة التفاضلية الوحيدة للبنان هي جمال ربوعه ومناخه المعتدل، ما يجعل بيروت مركزاً إقليمياً للسياحة والتجارة والمال واللهو. وقد سيطرت هذه المدرسة وصولا إلى عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي انتهج سياسة اقتصادية واجتماعية تهدف إلى التنمية المتوازنة بين كل المناطق اللبنانية، وإلى تقوية القطاعين الزراعي والصناعي، فأنشأ كلاً من البنك المركزي، والضمان الاجتماعي، والمشروع الأخضر، ومصلحة الإنعاش الاجتماعي، وطور مرفأ بيروت، وبدأ بمشروع معرض طرابلس... لكن الشهابية لم تحظ بدعم البرجوازية اللبنانية التي ظلت أسيرة حلم تحويل لبنان إلى جمهورية تجارية تتركز في بيروت، وتخدم المنطقة، وتتشكل على غرار «مونت كارلو». ويعتقد المؤلف أن أحد العوامل التي عززت موقف المدرسة الأولى، كان الارتفاع الحاد في أسعار النفط عام 1973، وهجرة كثير من اللبنانيين الذين اغتنوا بشكل سريع إلى الدول الخليج العربية. ثم سرعان ما دخل لبنان في الحرب الأهلية، حيث اغتنى زعماء الميليشيات بشكل فاحش، وفي نهاية الحرب وجد لبنان نفسه أمام أعداد ضخمة من الأثرياء الجدد. وينتقد قرم سياسات الإعمار التي انتهجها لبنان في بداية التسعينيات، قائلاً إنها كانت نتاجاً لزواج القوى المالية الجديدة بالقوى المالية والتجارية التقليدية، وهو زواج تم تتويجه على يدي الفريق الإعماري بالدفع نحو الحلم القديم بجعل لبنان مختصراً في عاصمته بيروت كمركز مالي إقليمي أو «مونت كارلو الشرق». وقد جرى ذلك في ظل مناخ أقنع شرائح واسعة من اللبنانيين بأن السلام بين العرب وإسرائيل آت لا محالة، وبأن أي تأخر عن إعادة بيروت على الخريطة الاقتصادية والمالية العربية والشرق أوسطية سيكون كارثة اقتصادية للبنان. ويرى قرم أنه بدلاً من القيام بدراسة شاملة لاحتياجات البلاد، الإنسانية والاجتماعية، بعد 15 عاماً من الحرب، دخلت الجمهورية الثانية في موجة من المضاربات العقارية والمالية والنقدية، كانت مصدراً للإثراء على حساب الخزينة اللبنانية. وكان القطاع الخاص المنتج أحد ضحايا هذه السياسة العشوائية، والتي أدت إلى تدن كبير في حركة الاستثمارات الصناعية والزراعية. ومما فات على الفريق الإعماري في حينه حقيقة التغيرات الاقتصادية الكبيرة التي شهدتها المنطقة العربية خلال سني الحرب اللبنانية؛ فقد طورت دول الخليج العربية بنيتها التحتية إلى أبعد الحدود، وأقامت مؤسسات مصرفية وخدمية وصناعية عملاقة، بينما عاد الاقتصاد المصري إلى الانفتاح على الاقتصاد العالمي، وتم إلغاء معظم التشريعات التقييدية الاشتراكية الطابع التي وضعت خلال العهد الناصري، كما دخلت سوريا في الطريق ذاتها، وإن على بطء... وهي تطورات تنزع الكثير من حجيتها عن أطروحة «لبنان الصغير» أو حلم «مونت كارلو الشرق»! محمد ولد المنى الكتاب: نظرة بديلة إلى مشكلات لبنان السياسية والاقتصادية المؤلف: د. جورج قرم الناشر: دار الفارابي تاريخ النشر: 2013