تبنى مجلس الأمن بالإجماع قبل يومين قراراً دولياً بنزع سلاح نظام بشار الكيماوي، وهي مسألة كما هو معروف تحتاج وقتاً وجهداً، ولا تقلل الأنباء الواردة عن تسهيل تلك العملية باعتبار بعض مخزون الأسد تالفاً من حجم خيبة الأمل في أن يتم اختزال الأزمة السورية في الأسلحة الكيماوية فحسب. لقد سجل هذا القرار نجاحاً في تجريم السلاح الكيماوي السوري، وتأكيد نزعه وتفكيكه، ولكنه ارتكب في الوقت نفسه تهميشاً يشبه التشريع لقتل الشعوب بالصواريخ الباليستية كصواريخ سكود وقصفها بالطائرات الحربية وضربها بالدبابات والأسلحة الثقيلة، حيث إن الأسد لم يزل يصنع ذلك منذ سنتين ونصف بلا رادعٍ. لقد أنشئت منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في 26 يونيو 1945 بمدينة سان فرانسيسكو على أن تتكون من المؤسسات التالية: الجمعية العامة، مجلس الأمن الدولي، الأمانة العامة، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، مجلس الوصاية، ومحكمة عدل دولية. وقد انتهى مجلس الوصاية بعد حيازة الدول لاستقلالها وانتهاء عهود الوصاية، وتتبع لها العديد من الوكالات المتخصصة كوكالة غوث اللاجئين "الأونوروا" وغيرها. لم تزل هذه التركيبة الفريدة تعمل بكفاءة، وبعد عامين تدخل عامها السبعين، واستطاعت هذه المنظمة تطوير نفسها والتأقلم مع تغييرات كبرى شهدها العالم، ولكن هذا لا يمنع من أهمية دعوات التغيير والتطوير ذات الوجاهة في تركيبة المؤسسة، ومنها مجلس الأمن، ولكن يجب ألا تكون على حساب الدور الإيجابي دولياً. تاريخ الأمم المتحدة مليء بالقرارات الكبرى التي عالجت قضايا خطيرة في الصراعات والنزاعات الدولية، وهناك العديد من القرارات التي كانت مخصصة لمنطقة الشرق الأوسط، وهي كثيرة، ويمكن استحضارها بسهولة. من المفارقات أن الولايات المتحدة دولة المقر كانت دائماً مضطرةً لاستقبال خصومها ليخطبوا على منبر الأمم المتحدة في نيويورك، ذلك المنبر الذي وقف عليه زعماء دوليون كبار ورؤساء دولٍ صغيرة على السواء، وقد كان مجبراً على تحمل العديد من الخصوم الكبار والصغار، ومنهم مشاغبون معادون وديكتاتوريون قتلة. لقد ضرب الرئيس السوفييتي نيكيتا خروتشوف المنبر بجزمته وتحمّل تحريضات الرئيس الكوبي فيديل كاسترو وخطبه الرنّانة وكذلك حماقات القذافي الذي مزّق ميثاق الأمم المتحدة على منبرها، كل ذلك التاريخ والمواقف والأحداث توضح بجلاء كم هو واسع- كما يجب- صدر الدبلوماسية! تعاني الأمم المتحدة من أن كثيراً من الدول في المواقف الحاسمة لا ترضيها حلول الدبلوماسية، وغالب الجماهير لا ترضى بها وبقراراتها أبداً، وذلك أن شأن مثل هذه المنظمة الدولية هي نادٍ لنخبة كل دولةٍ والنخبة قادرة على اقتراح حلولٍ لا يرضى بها العامة، وهكذا نزولاً حتى يصل عدم الرضى لدى البعض إلى أن يعتبر أن مؤسسة دولية بهذا التاريخ والحجم والأثر، لا تعدو أن تكون مؤامرة يشكلها كل خيال بلون خصمه. إقليمياً، كان لقرارات الأمم المتحدة تأثير قوي على العديد من القضايا كالقضية الفلسطينية ولبنان والعراق وغيرها كثير، وقد نفذت بعض تلك القرارات بالكامل، وقد أعيق تنفيذ بعضها الآخر، ولكل قرارٍ معطياته وظروف تطبيقه مما لا مجال لتفصيله هنا. واليوم تشهد المنطقة تغييرات كبرى في توازنات القوى، منذ نهاية 2010 وصولاً لوقتنا الحالي، وقد كان لتلك التغييرات سياسات اتخذت وقرارات نُفذت ورؤى وعيت واتبعت، ولئن اختلطت بعض الرؤى والمصالح، فقد بقيت الحقائق على الأرض أقوى من خيالات الواهمين وأحلام المؤملين. ما يحدثنا به الواقع اليوم، هو أن الأعداء يخسرون. أعداء السعودية ودول الخليج يفقدون عناصر قوتهم فيما هي تصعد، بمثل هذا التعبير يمكن أن نرصد الأحداث اليوم، وعلى الرغم من أنه قد يبدو تعبيراً مستعجلاً نوعاً ما وحاسماً من جهة أخرى، ولكن الوقائع تؤكده وتدفع باتجاهه. وعلى سبيل المثال فإن جماعة "الإخوان"، وهي عدو استراتيجي لدول الخليج قد خسرت الحكم بمصر، وخسائرها تزداد يوماً بعد الآخر، فقياداتها في السجون ومؤسساتها تُحلّ، وعناصرها تطارد، وهي زادت الطين بلةً باختيارها العنف سبيلاً لتحصيل مكاسب سياسيةٍ. والأمر ذاته ينطبق على إيران التي تمثل العدو الإقليمي الأهم والأكثر خطورةً. فبعد سنوات من التصعيد الأيديولوجي والسياسي، والعمل بلؤمٍ تحت الأرض ضد السعودية ودول الخليج وحلفائها، قد اختارت اليوم التراجع ضمن سلسلة تاريخية من مواقفها بعد الثورة الإسلامية يمكن رصدها بسهولة. فبعد نجاد وسياسات التهجم والمعاداة الصريحة والسافرة تجاه السعودية والخليج إقليمياً وداخلياً، ها هي تنتخب "روحاني" ليكون رسول سلامٍ للغرب وللمنطقة. ويبدو المشهد أكثر دراميةً في تابعها الأكثر إخلاصاً والأشد حماسةً "نصر الله" في لبنان، الذي يمكن اعتباره "تيرمومتر" السياسة الإيرانية في المنطقة، فهو يتخذ مواقف متطرفة في التصعيد والتخفيف على حدٍ سواء، ومع أنه ظل لشهور منذ معركة "القصير" وما تلاها يرغي ويزبد ضد الشعب السوري والسعودية ودول الخليج حتى وصل به الأمر للتهديد بالذهاب للقتال مع النظام السوري بنفسه قبل فترةٍ، وهو وعد أتباعه وأنصاره بنصرٍ مبينٍ في سوريا، ثم ها هو يعود في خطابه الأخير مهادناً ضعيفاً يتحدث بلغة المسكنة داخل لبنان وفي سوريا وفي المنطقة، ويرسل رسائل للسعودية ودول الخليج يريد بها التودّد وترك السلاح والاتجاه للدبلوماسية. في خطاب نصر الله23 سبتمبر 2013 بدا ضعيفاً حين تبرأ من "الأمن الذاتي" وإيجابياً تجاه "الدولة" في لبنان، حيث أراد لها أن تستلم المهام الأمنية في مناطقه وتصبح مسؤولة عنها، وربما أنه أحس بهزيمته في سوريا ويُخشى بأن تطاله يد الشعب السوري لاحقاً فلجأ إلى الاعتراف بالدولة من جديد. وتحدث عما قيل من نقل سلاح كيماوي سوري لـ"حزب الله"، وتبرأ من ذلك بشكل قاطعٍ خوفاً من إسرائيل وأميركا، وعاد ليصف قواته في سوريا بأنها محدودة العدد وفي مناطق محددة، وحاول التخفي خلف معانٍ إنسانية وأخلاقية لا علاقة له بها البتة. أخيراً، فإن العاقل يسعى للانتصار بكل قوة، وحين ينتصر يفرض شروطه، وربما فرضت عليه الدبلوماسية التواضع لخصمه عن بعض المكتسبات لتمرير نصر أكثر سهولةٍ وأقل دموية.