إن بوادر تحسن العلاقة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، هي أمر مطمئن ، فلا شيء أسوأ من قرع طبول الحرب، كما أنه يمكننا أن نفهم الآن أن التهديد والتصعيد هو دائماً أفضل وسيلة للتفاوض والحصول على أكبر المكاسب. فحينما لا يكون عندك ما تساوم عليه، ولا تكون لديك أنياب تكشر عنها، ولا مخالب تبرزها، فأنى لك أن تساوم؟! وتزداد القصة إدهاشاً حينما تغوص المعارضة المسلحة السورية في احتراب داخلي، حيث يفتك بعضهم ببعض، والأسد يتهيأ للترشح للانتخابات المقبلة! بالاستقرار يمكن للمجتمعات أن تتطور، وأن يتعلم أبناؤها. أن تنعم مع جيرانك بالاستقرار والأمان، هو أفضل ألف مرة من أن تحاط ببلد مناوئ ولكنه يعاني الفشل والتعثر. فكيف بك إذا كنت مخنوقاً بطوق من الدول الفاشلة المضطربة. أتذكرون صدّاماً؟ لم يكن صدام جباناً ولا ضعيفاً، ولكنه اكتشف في النهاية أن حماقاته أبقته معزولاً لا صديق له، وشعبه يواجه الموت جوعاً، وتفتك به الأسقام. لم يكن في عصابته التي أحاطت به أسماء يمكن أن تقدم شيئاً، أن تطرح حلولاً، كانوا كلهم عبيداً له، يقولون له ما يحب أن يسمعه، وأنـّى له أن يصغي وهو منذ ثلاثة عقود لا يسمع إلا صدى صوته. اليوم يمكننا أن نرقب ما يجري في السودان، هذا البلد الكبير البائس المعثر الخطى. الإيرانيون أمة حية نابضة، تعج بالحيوية، وبالعقول الجبارة، وبالسياسيين الدهاة، الذين يمكنهم أن يفاوضوك ساعات وشهوراً متواصلة من دون ملل، مع إدراك عبقري للخيوط الرفيعة بين الاستعراض الأهوج، وإظهار القوة على عتبة المفاوضات وطاولة المساومات، وقد أثبتت الساحة السورية أنها كانت حلبة استعراض للعضلات، وأنها كانت سلة المكاسب، وزرعاً حان حصاده. الروس لم يكونوا أقل شأناً، فروسيا اليوم تؤكد أنها لاعب رئيس في منطقتنا. في التاريخ المعاصر يمكننا استلهام عبرة، فماذا كان يمكن أن يحصل لو أن بريطانيا عشية الحرب العالمية الثانية خنعت لهتلر وتغاضت عن احتلاله لبلجيكا وبولنداً وثلثي أوروبا؟ لو أنها قنعت بالورقة التي أحضرها معه رئيس الوزراء البريطاني تشامبرلين، التي منح فيها هتلر وعوده ألا يعتدي على بريطانيا. ولكن تشرشل كان يقظاً تماماً لبوادر الظلمة التي ستطبق على أوروبا، وحين انصرف عنه أعضاء مجلس العموم، وتجاهلت الحكومة تحذيراته، ووجد نفسه وحيداً، لجأ أخيراً إلى الشعب، فألهب مشاعرهم بأعظم الخطب، التي ألقيت في التاريخ المعاصر، مستنداً على إيمان رومانسي بتاريخ الإمبراطورية، والحرية الإنسانية، وبكرامة البشر والعدالة. كان بعض الساسة البريطانيين مؤمنين بأنه بالإمكان إرضاء هتلر، إرضاء الذئب بشاة أو شاتين، لأنه حين يصل إليك وهو متخم، سيكون قد فقد رغبته في التهامك، ولكن ذلك لم يكن في الحقيقة إلا وهْماً، لهذا حين أعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا، كان ذلك أفضل ما يمكن فعله، لم يكن الاتحاد السوفييتي وقتها معنياً، لأنه وقع اتفاقية سلام مع ألمانيا، ولم تكن أميركا مستعدة تلك اللحظات الحرجة لأن تتدخل، بينما كان الذئب يلتهم أوروبا قضمة بعد قضمة. لأول مرة ربما يشعر البريطانيون أنهم جزء من أوروبا، كانوا عبر مئات السنين يؤمنون بأنهم في جزيرتهم يمكنهم أن يولوا أوروبا ظهرهم، ولكن حين أدرك تشرشل الخطر، خطب في الأمة البريطانية موضحاً أنه لا يمكنهم أن يتجاهلوا كونهم جزءاً من القارة، إلا لو أمكن أن تقتلع جذور الجزيرة ثلاثة آلاف ميل، ولكنه غير متأكد من إمكان ذلك. فهل سيقنع الذئب الآن بشاة أو شاتين؟