مرت ذكرى مرور أربعين عاماً على الحركة الانفصالية في جنوب الفلبين من دون احتفال، وحتى من دون أي محاولة لاستلهام الدروس والعبر. وكل المحاولات التي بذلت على الصعيدين العسكري والسياسي لحل هذه المعضلة باءت بالفشل. وقد كرّست هذا الفشل العملية التي انفجرت في شهر سبتمبر الماضي في جزيرة منداناو الجنوبية، والتي أدت إلى مقتل العشرات من قوات الأمن الفلبيني ومن الانفصاليين المسلمين. ولكن لماذا يطالب المسلمون بالانفصال؟ في الأساس وجد الإسلام طريقه إلى تلك الجزر عن طريق التجار. كان السكان الأصليون حتى مطلع القرن الخامس عشر من الوثنيين. وقد تجمّع المسلمون الجدد في مدينة صغيرة أطلقوا عليها اسم «أمان الله». وفي عام 1557 بلغ التوسع الإسباني مداه. وكان هناك تنافس بين إسبانيا والبرتغال. وتدخل البابا لضبط التنافس ورسم خطاً يفصل الكرة الأرضية إلى قسمين، شمالي وجنوبي. القسم الشمالي مفتوح أمام الاستعمار الإسباني. والقسم الجنوبي مفتوح أمام الاستعمار البرتغالي. وكانت جزر الفلبين من حصة التوسع الإسباني. وفي ذلك الوقت كان يعتلي العرش الإسباني الملك فيليب. ولذلك أطلقت إسبانيا على الجزر التي احتلتها اسم الملك وسمّتها الفلبين. وهكذا أصبحت «أمان الله» مانيلا! ولم تنقل إسبانيا إلى الجزر المسيحية الكاثوليكية فقط، ولكنها نقلت إليها أيضاً عداءها للإسلام. فالتوسع العسكري الإسباني انطلق بعد إسقاط الحكم الإسلامي في الأندلس، وبعد تصفية المسلمين -واليهود من خلال محاكم التفتيش- الذين لم ينسحبوا مع القوات المهزومة. ولذلك كان طبيعياً أن يعتبر الإسبان الفاتحون مسلمي الفلبين استمراراً لأعدائهم المسلمين. وقد أدى ذلك إلى هجرة المسلمين من شمال الجزر إلى جنوبها القريب مما يعرف اليوم بماليزيا. وأكبر تلك الجزر هي جزيرة منداناو. ولم يرحم الاحتلال الأميركي في مطلع القرن التاسع عشر لا المسلمين ولا المسيحيين الكاثوليك من أهل الفلبين، ذلك أن البعثات التبشيرية الإنجيلية كانت ضد الاثنين معاً. وقد قتل مئات الآلاف من الفلبينيين أثناء مقاومتهم للاحتلال وللتبشير الإنجيلي. وبعد الاستقلال ظل المسلمون مهمشين ومنعزلين (في غالبيتهم) في منداناو. ولما بلغ السيل الزبى قاموا بانتفاضتهم الأولى في عام 1972. وتصدت الحكومة الفلبينية بالقوة العسكرية لتلك الانتفاضة، ووصفت القائمين بها بالمتمردين وأطلقت على حركتهم اسم حركة تحرير «مورو». ومورو هو الاسم الذي كان الإسبان يطلقونه على مسلمي الأندلس، والاسم مشتق من اسم المغرب وأهله المغاربة أي «المورو» بالإسبانية. والمغرب هي الدولة التي انطلقت منها حملة طارق بن زياد لفتح الأندلس، والتي كانت تمد الإمارات الإسلامية بالدعم العسكري أثناء حرب الاستعادة الإسبانية للأندلس. ولذلك فإن كل مسلم هو «مورو»، حتى ولو كان من أهل الجزر الأصليين. ولم تستجب الحكومة الفلبينية لمطالب حركة التحرير، لأنها في الأساس لم تكن مقتنعة بأن الحركة وطنية فلبينية وأن لها حقوقاً. بل كانت تنظر إليها على أنها «استمرار للمورو الذين طردتهم إسبانيا من الأندلس»... فظهروا في جزر الفلبين! وقد سال دم كثير في الأدغال الفلبينية من المتمردين المسلمين ومن قوات الأمن الفلبينية على مدى أربعة عقود إلى أن اقتنعت الحكومة الفلبينية بأن هؤلاء «المورو» هم مواطنون حقاً. وأن لهم حقوقاً. وهكذا بدأت المفاوضات السياسية بحثاً عن تسوية. وفي عام 1976 جرت أول مفاوضات في طرابلس الغرب برعاية ليبية. ولكنها باءت بالفشل. ودخلت على الخط بعد ذلك إندونيسيا وماليزيا وكذلك بروناي. ولما جرى التوقيع على اتفاق «قصر الحرية» في جاكرتا، بدا وكأن الأزمة قد طويت وأن صفحة جديدة قد فتحت. ولكن الواقع لم يكن كذلك. فقد عمدت حكومة الفلبين إلى شغل جزيرة منداناو بعشرات آلاف من الفلبينيين الكاثوليك المتشددين من الشمال لتغيير الواقع الديموغرافي في الجزيرة في الجنوب. واعترض المسلمون. وكان ذلك كافياً لإسقاط الاتفاق. واستؤنفت التدخلات الدولية من جديد. وتم التوصل إلى اتفاق جديد يسمح للحكومة الفلبينية باستيعاب مجموعات من الثوار المسلمين في القوات المسلحة (وهو ما جرى في لبنان بعد الحرب الأهلية 1975 – 1990). ولكن الاعتراض هذه المرة جاء من المسيحيين المتطرفين الذين نقلتهم الدولة إلى الجنوب وتجمعوا في مدينة زامبوانجا في جزيرة منداناو. وقد دخل محافظ المدينة رولدان والمان في عصيان مسلح ضد قرار الاستيعاب. وفي هذه المدينة بالذات انفجرت أحداث الشهر الماضي بين المتمردين المسلمين وقوات الأمن. لقد تراجعت المطالب الإسلامية من الانفصال إلى الاندماج. ولكن للاندماج شروطاً عارضها المتطرفون الكاثوليك بحجة أن المسلمين الفلبينيين لا يمكن الوثوق بولائهم للدولة. ومن هنا كان السؤال ما الحل إذن؟ هناك من يطالب بإبعاد المسلمين الفلبينيين إلى ماليزيا وبروناي، وتحويل الفلبين إلى دولة «كاثوليكية نظيفة»، ولكن عملية التطهير العرقي لم تعد مقبولة في مجتمع القرن الحادي والعشرين. كان من المقرر اجراء استفتاء في عام 1999 حول منح المسلمين الحكم الذاتي في 14 إقليماً من أصل 23 إقليماً تشكل مجموعة الجزر الجنوبية. وجاء هذا القرار حصيلة سلسلة طويلة من المساعي الدولية لحل الأزمة. وعلى رغم أن حكومة مانيلا (أمان الله سابقاً) وافقت على القرار والتزمت به، إلا أنها تحت ضغط المعارضة الداخلية تراجعت عنه، مما أثار المزيد من الاضطرابات المسلحة في وجهها. وتعددت المبادرات التي لم تنفذ إما بسبب تراجع الحكومة عنها تحت ضغط القوى المحلية المتطرفة بما فيها الجيش الفلبيني، أو بسبب تشرذم فصائل حركة التحرير الإسلامية «مورو»، وبالنتيجة فقدَ المسلمون الثقة في أي تعهد تقدمه الحكومة من جهة، وفقدت الحكومة من جهة ثانية القدرة على إقناع كل فصائل المقاومة الإسلامية بالموافقة على اتفاق موحد. ومنذ عام 1972، تعاقبت على الحكم في الفلبين مجموعة كبيرة من الرؤساء. كلهم حاولوا تسوية الأزمة مع مسلمي الجزر الجنوبية، ولكن دون جدوى. فقد كانت تبرز معارضات من داخل الجيش أحياناً، ومن وسط الحركات الدينية المتطرفة أحياناً أخرى ضد أي حل يمنح المسلمين حكماً ذاتياً. وأخيراً ظهرت المعارضة من خلال انقسام حركة التحرير الإسلامية. ولم يغير من هذا الواقع الخطاب الذي وجهه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني للمسلمين عندما زار الفلبين. فقد وصفهم بـ«الأخوة». وقد فهم الفلبينيون الكاثوليك أن البابا لم يكن يعني «الأخوّة الوطنية»، ولكنه وهو المرجع الديني الكاثوليكي الأول في العالم، كان يعني «الأخوة الإيمانية بالله الواحد». غير أن هذا الموقف المتقدم والجريء للبابا الراحل، لم يغير من الواقع على الأرض. فالعصبيات أقوى من أن تكافح بتصريح حتى وإن كان صادراً عن البابا نفسه.