قام الطرح الدعوي السياسي لجماعة «الإخوان» -التنظيم الأم- بمصر على امتداد 8 عقود على فكرة محورية، هي أن دعوة «الإخوان» تمثل «الوسطية» و«الاعتدال» الإسلامي بين كافة الدعوات الإسلامية في العصر الحديث. ومن يتابع ويرصد أدبيات «الإخوان» ومؤلفاتهم في المكتبة العربية، يجد أن كتَّابهم ودعاتهم هم الأكثر تأليفاً في الوسطية الإسلامية والأكثر تنظيراً لها في الساحة الفكرية والسياسية، وهي وسطية تقوم على الاعتدال في الاعتقاد والموقف والسلوك والنظام والمعاملة، وتقابل التطرف والتشدد والمغالاة والتعصب. وقد حرص مؤسس جماعة «الإخوان» وكافة منظريهم من بعده على تمييز دعوتهم بسمة الاعتدال والوسطية عبر المنابر الإعلامية وعبر تسيدهم على المناهج التعليمية في بعض البلاد العربية والخليجية في الفترات الماضية، وكان صوتهم هو الأعلى في الترويج لطرحهم الدعوي السياسي بأنهم الممثلون الحقيقيون للإسلام الوسطي المعتدل بين الفرق والمذاهب والحركات الإسلامية كافة. فهم ضد التشدد وضد العنف ومع التيسير ورفع الحرج، وهم ضد الطائفية والتعصب المذهبي ومع جمع كلمة المسلمين والتقارب المذهبي والتعاون وفق شعار «نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه». وقد أجاد «الإخوان» استثمار هذا الشعار مع أنهم ليسوا أول من أبدعه، واستخدموه ضد تشدد بعض السلفيين الذين يقطعون جسور التواصل والالتقاء مع الفرق الإسلامية الأخرى وضد سلاح التعصب المذهبي، كتأكيد لوسطيتهم واعتدالهم وتسامحهم وإيمانهم بالتعددية المذهبية. وفي الوقت الذي يسعى فيه «الإخوان» لإبراز تميزهم بالوسطية مقارنة بالفرق والمذاهب الأخرى، فإنهم -أيضاً- حرصوا على أن يظهروا تميزهم عن الجماعات والتيارات الوطنية الأخرى، بحجة أنهم يؤمنون بالإسلام (ديناً ودنيا، عقيدة وشريعة، مصحفاً وسيفاً)، وهو الشعار الذي رفعه المؤسس تمييزاً لجماعته في مواجهة الأحزاب السياسية المصرية وبخاصة «الوفد» الذي تبنى فصل الدعوة الدينية عن العمل السياسي الحزبي، ورفع شعار «الدين لله والوطن للجميع»، وهو الشعار الذي آمنت به الغالبية المصرية. نجح «الإخوان» في الترويج لأنفسهم بأنهم يمثلون الإسلام المعتدل، سواء في الداخل أو في الخارج، واستطاعوا إقناع الإدارة الأميركية الحالية بأنهم الأقدر على كبح جماح التطرف الإسلامي، وعلى ترويض المتطرفين الإسلاميين، كونهم يملكون المؤهل الديني القادر على هذه المهمة. ويبدو أن الإدارة الأميركية -بعد ثورات ما سمي «الربيع العربي»- أصبحت أكثر قبولاً لوجهة النظر الإخوانية في دعم حركات الإسلام السياسي للوصول إلى السلطة. وهكذا وصلت جماعة «الإخوان» -التنظيم الأم- في مصر إلى السلطة عبر الصندوق الانتخابي، لكن مكر التاريخ أو دهاءه يثبت -دائماً- أن التنظير للوسطية أو ادعاءها، أمر وأن الممارسة والتطبيق والترجمة الصادقة لها على أرض الواقع المجتمعي، أمر آخر. لقد أثبتت تجربة «الإخوان» السياسية بعد وصولهم إلى السلطة في مصر، أنهم أبعد الفصائل والجماعات السياسية والدعوية عن الوسطية والاعتدال في كافة مواقفهم السياسية وفي إجراءاتهم التنفيذية، وفي تشريعاتهم التي حاولوا تمريرها، بل وفي الدستور التمييزي ضد المواطنين، وفي الإعلان الدستوري الذي لا معقب عليه والذي حصّن فيه رئيس الجمهورية قراراته المخالفة للدستور المصري، وحتى في أسلوب تعاملهم مع كافة القوى الوطنية والذي قام على الاستعلاء والادعاء. لقد سعى «الإخوان» فور وصولهم إلى السلطة، سعياً حثيثاً ومكشوفاً إلى تطبيق خطة «التمكين» ونشطوا سراعاً في الهيمنة والاستحواذ على كافة مؤسسات الدولة وعلى جميع مفاصل المجتمع. زرعوا قياداتهم ورموزهم وأنصارهم ومن تعاطف معهم في كافة الأجهزة والهيئات والمؤسسات، وأقصوا كافة القوى الوطنية والشبابية التي قامت بثورة 25 يناير، ولم يقتصر الأمر على التمكين والإقصاء، بل دخل «الإخوان» منذ وقت مبكر في عمليات تصادم مع كافة مؤسسات الدولة والمجتمع الراسخة مثل الأزهر والكنيسة والقضاء والإعلام والثقافة والشرطة والأمن، وحده الجيش كان استثناءً، إذ حاولوا استمالته حتى يضمنوا ولاءه لهم، لكنهم لم ينجحوا. غابت الوسطية التي تغنى بها «الإخوان» طويلاً عندما وصلوا إلى الحكم، وتلاشى الاعتدال الذي تظاهروا به كثيراً، في مسلكياتهم السياسية ومواقفهم مع القوى الوطنية، بل حتى مع حلفائهم الإسلاميين، كحزب «النور» السلفي الذي اضطر في النهاية -بسبب سياسة الإقصاء والتمكين- إلى مفارقتهم والانقلاب عليهم. أصبح «الإخوان» بعد سنة من الحكم، وفي النهاية، بلا صديق ولا حليف! لماذا؟ وما معنى خسارة «الإخوان» لشعبيتهم بعد أن حكموا؟! ما معنى أن يتحول غالبية الشعب المصري إلى حالة الكراهية لهم لدرجة أن يصرَّح الدكتور محمد البرادعي -نائب الرئيس المصري السابق للشؤون الخارجية- بأن المزاج المصري العام هو سحق «الإخوان»؟ لا معنى ولا تفسير لما حصل لـ«الإخوان» بعد سنة من الحكم إلا أن سياساتهم المناقضة لمفاهيم الوسطية والاعتدال والتسامح، هي التي أدت إلى هذه النتائج الكارثية لهم والتي تمثلت في أكبر انتفاضة جماهيرية شهدها التاريخ المصري! الطرح الإخواني الذي طالما تغنى بالوسطية والاعتدال والتسامح، تعرض لاختبار حقيقي وكانت النتيجة سقوطاً مدوياً ومشهوداً، وهو ما لم يحصل مثله، حين سقوط الطروحات والأيديولوجيات الأخرى كما حصل في مصر من كراهية شديدة لـ«الإخوان» أنفسهم وليس لطرحهم الفكري فحسب! لأن الجماهير المصرية أدركت مؤخراً أن الترويج الإخواني للوسطية والاعتدال، فاقد للمصداقية من جماعة دينية يفترض بها أن تكون قدوة أخلاقية، وهو ما كشف عنه بكل براعة الدكتور إبراهيم عرفات الكاتب والمحلل المصري في مقالة رائعة «الإخوان وخرافة تمثيل الإسلام الوسطي»، بصحيفة «الوطن» القطرية، إذ يقول: عمل «الإخوان» باستمرار على تسويق أنفسهم على أنهم ممثلو الإسلام الوسطي المعتدل، وانتهزوا فرصة هجمات 9/11 على أميركا لنقل تلك الرسالة إلى الأميركيين، وكان أن اشترى الأميركيون ما سوَّقه «الإخوان»... وسرعان ما اتضح أن تمثيل «الإخوان» للوسطية لا يزيد عن خرافة، لسببين: 1 -أنهم وطالما لم يفصلوا الدعوة عن السياسة، قابلين للسقوط في فخ التطرف، وأخطر صوره: استعمال وتبرير العنف كما يتضح في شعارهم وفي قسم الولاء لقادتهم وفي ممارساتهم التاريخية منذ 1928 إلى اليوم. 2- أنهم يهمشون المستوى الأوسط للهوية (مستوى الوطن) ليقفزوا به في حضن كيان آخر يذوبون فيه، ومن ليس له خير في وطنه، ليس له خير في أمته. ختاماً: من يدعي الوسطية والاعتدال، لا يبرر للإرهابيين عنفهم ولا يقصي الآخر السياسي ولا يمارس العنف في أبشع صوره، كما هو حاصل اليوم في مصر في رد انتقامي من الشعب المصري، ولا يتحالف مع جماعات العنف ولا يسيس منابر بيوت الله للهجوم والتحريض والتدخل في شؤون الدول الأخرى ولا يصدر فتاوى ضد الجيش الذي هو خير أجناد الأرض!