تتغير الحكومات في إيران لكن ما لا يتغير هو استمرار صعود إيران في المنطقة وتزايد نفوذها. سواء أكان الحكم في طهران متطرفاً بقيادة نجاد أم معتدلا بقيادة روحاني فإن مسار السياسة الإيرانية يبدو متجهاً في ذات الخط التصاعدي. ليس ثمة عبقرية خاصة تميز تلك السياسة تقودها إلى إنجازات من نوع مختلف، بل الفراغ الإقليمي العربي وضعف الدول العربية هو الذي يغري دولا إقليمية مثل إيران وتركيا لتحتلا موقعاً متميزاً في قلب النفوذ الإقليمي، مُضافاً إلى ذلك غباء السياسة الأميركية في العراق التي انتهت إلى تقديمه على طبق من فضة لطهران ونفوذها. خلال فترة حكم نجاد اختلطت السياسة الإيرانية وتوسعها الإقليمي بنبرة أيديولوجية دينية وشعارات وتهويمات الرئيس نفسه الذي كان يعيش عالمه الغيبي الخاص به. في السياسة ليس أخطر من رجل يعتلي هرمها وتقوده أوهام الأيديولوجيا ويظن أن الغيب أوكل إليه مهمة إصلاح الكون. كان نجاد يعتقد أنه قائد جيش المهدي المنتظر وأن ظهور هذا الأخير بات وشيكاً وأن ما يقوم به يمهد لعودة الإمام. وكان يرى في الغزو الأميركي للعراق محاولة أميركية يائسة لتأخير ظهور الإمام لأن وسائل الاستخبارات الأميركية علمت قبل غيرها بموعد الظهور! بكل الأحوال صار ذلك خلف ظهورنا، مع انتخاب روحاني الذي تأمل كثيرون أن يفتح صفحة جديدة في السياسة الإيرانية وخاصة لجهة علاقات إيران مع جيرانها العرب. لكن المواقف والتوجهات التي يمكن رصدها حتى الآن من سياساته تشير إلى الشيء ونقيضه وما زالت لم تترسخ، ومن الموضوعي منحها فترة أطول حتى تتبين بشكل أوضح ومن ثم يتم الحكم عليها. لكن الشيء المقلق هو أن تتغير السياسة الإيرانية دولياً وتتصالح مع الغرب بينما تبقى على حالها من تشدد وتدخل على المستوى الإقليمي، بل إن يوفر لها انفتاحها على الغرب وتقديمها تنازلات في الملف الأهم بالنسبة للدول الكبرى، وهو سقف امتلاكها التكنولوجيا النووية وإمكانية تحويلها إلى المجال العسكري، فرصاً جديدة للاستقواء الإقليمي وتكريس سياسة التدخل في الجوار وبسط النفوذ. والشيء الأكيد هنا هو أن طهران تقرأ وتستوعب الدرس السوري جيداً ومدى الهوس الغربي بسلاح سوريا الكيماوي الذي أدهش وفاجأ حكام دمشق أنفسهم، حيث اكتشفوا أن هذا السلاح هو رافعة النجاة للنظام، ليس عبر استخدامه بل عبر التفاوض مع الغرب على تسليمه. ومن شبه المؤكد أن طهران قدمت نصيحة غالية لدمشق لقبول فكرة تسليم السلاح الكيماوي، بهدف كسر الانسداد السياسي الذي كان يواجه الحكم السوري، وفتح الطريق واسعاً إلى «المفاوضات مع الغرب» حول كيفية وآلية تسليمه، والجدول الزمني، وترتيبات السلامة، والبروتوكول السياسي والدبلوماسي والأمني، وقائمة طويلة من الإجراءات. طهران التي تمتلك خبرة عريقة في مفاوضة الغرب حول الملف النووي سوف تكون إلى جانب دمشق تمدها بتلك الخبرة، وسوف تطول مفاوضات الملف الكيماوي السوري مع الغرب كما طالت شقيقتها الإيرانية، وخلال ذلك سيستقوي النظام ويستمر في طحن الشعب السوري دفاعاً عن حكم الأسد. كانت طهران تدرك أن الملف النووي هو الورقة الأهم إن لم تكن الوحيدة التي تمتلكها على طاولة المفاوضات مع الغرب من أجل اكتساب اعتراف بمصالحها في المنطقة والكف عن «التدخل» في شؤونها الداخلية. والآن جاء الدرس السوري ليس ليؤكد ما كانت تعرفه إيران وحسب، بل ولتدهش حكامها بمدى هوس الغرب واستعداده لتقديم تنازلات كبيرة في سبيل تحييد هذا السلاح في سوريا، ثم في إيران. لم يهم الغرب أن أكثر من مائة ألف سوري قتلوا بالسلاح التقليدي غير الكيماوي، فهذا السلاح فعّال فقط ضد الشعب ولا فاعلية له مع إسرائيل. وكذا الأمر بالنسبة للملف النووي الإيراني، فطالما تم تحييده فإن «خطر» إيران على إسرائيل سوف يتم إبطاله. في المقابل تُترك إيران حرة طليقة في سياساتها الإقليمية وإزاء جيرانها. لذلك فالمرحلة المُقبلة سوف تشهد تحديات كبيرة للنظام الإقليمي العربي إزاء ما قد تصل إليه المفاوضات الإيرانية الغربية. فطهران روحاني سوف تكون في الغالب أكثر اعتدالا وبراغماتية مع الغرب إزاء الملف النووي، وليس من المُستبعد أن تصل معادلة شبيهة بالمعادلة الروسية وأساسها هو: التنازل للغرب من أجل السيادة في الإقليم. ولأن بوصلة الاهتمام الأميركي والغربي عامةً هي أمن إسرائيل، فحال أن يتم تأمين ذلك فإن إطلاق يد طهران إقليمياً لن يقض مضاجع واشنطن وحلفائها. وهذا يبقي التحدي الحقيقي في الملعب العربي حيث الأسئلة الصعبة التي ينبغي التصدي لها حول كيفية التعامل مع إيران، وصدقية الرهان على «طهران الجديدة»، ونسبة الجديد والمتغير إزاء القديم والمستمر في سياستها! المعضلة الكبيرة في السياسات العربية هي التردد والبطء وعدم الإقدام، خلافاً للسياسة الإيرانية التي تتصف بالهجومية وعدم التردد. فخلال سنوات الثورة السورية الثلاث دخلت إيران في قلب النار دون تردد، ووقفت إلى جانب الأسد ولم تأبه لأي أحد. كانت تدرك أن سقوط النظام يعني انحسار نفوذها الإقليمي وانكسار الهلال الإيراني في حلقته الأهم. في المقابل لم يكن هناك موقف عربي حاسم في تأييد الثورة السورية. بل في غمرة الانهماك الخليجي في مصر، كانت إيران تتجذر في سوريا واليمن والمنطقة كلها.