في فجر يوم الحادي عشر من شهر يناير الماضي أطلقت الحكومة الفرنسية عملية عسكرية واسعة في شمال جمهورية مالي، تحت اسم عملية «سيرفال»، وقد فاجأ التوقيت والزخم الذي جرى به الانخراط العسكري الفرنسي هناك كثيراً من المراقبين والمتابعين لشؤون منطقة الساحل والصحراء الأفريقية. وبعد انطلاق العملية بخمسة أيام هاجمت جماعة إرهابية مسلحة، بطريقة استعراضية عنيفة، منشأة «عين إمناس» لإنتاج الغاز الطبيعي في الصحراء الجزائرية واحتجزت رهائن، وقد أدى ذلك إلى تقدم أخبار أزمة منطقة الساحل في الواجهة الأمامية من عناوين واهتمامات وسائل الإعلام الدولية، في تطور ملفت، حيث إن هذه المنطقة من العالم نادراً ما كانت تنال أدنى تغطية إعلامية دولية مكثفة، نظراً لفقرها الشديد، وغيابها المزمن عن واجهة الأحداث خلال العقود الماضية. وفجأة احتلت، بهذه الطريقة الصاخبة، أحداث شمال مالي والساحل مانشيتات كبريات الصحف والمجلات العالمية ليكتشف القارئ الغربي خاصة مدى أهمية تلك المنطقة، من النواحي الاستراتيجية والاقتصادية، على رغم ما كل يحدق بها من تحديات ورهانات سياسية وتنموية عصية، أقلها عدم الاستقرار وتفشي خطر الإرهاب، والفقر الشديد، وغياب أبسط الخدمات والبنيات التحتية الأساسية، وانفلات الحدود وعدم السيطرة عليها، ونشاط حركة التهريب وتجارة السلاح، وسوى ذلك من مفردات شكلت مجتمعة وصفة لمنطقة فاشلة، وبؤرة مهملة لكل ما قد يخطر على الذهن من جماعات عنف وجريمة منظمة، في مواجهة دول ضعيفة، وحكومات قاربت حدود الفشل في كثير من الأحيان. وكانت نتيجة كل ذلك سيطرة الجماعات الإرهابية بالكامل على أكثر من نصف مساحة جمهورية مالي طيلة النصف الثاني من السنة الماضية 2012. ولتقديم عملية «سيرفال» في سياقها السياسي والجيواستراتيجي الدقيق أصدرت مجموعة مؤلفين فرنسيين، بإشراف الأكاديمي ميشل غالي، هذا الكتاب الذي نشير هنا بشكل خاطف إلى بعض محتوياته وعنوانه: «الحرب في مالي... فهم الأزمة في منطقة الساحل والصحراء، الرهانات ومناطق الظل»، وقد استعرض مؤلفوه الخلفيات التاريخية والجغرافية التي أفرزت هذه الأزمة، مبرزين طبيعة النسيج السكاني المتعدد في الصحراء الكبرى الأفريقية، ومدى معاناة سكان دول أفريقيا الغربية عموماً من الفقر الشديد، وفشل الدول الوطنية في مرحلة ما بعد الاستقلال في تحقيق معدلات تنمية متوازنة وفعالة، وكذلك قصور أدائها في تجذير هويات وطنية راسخة تجعل مختلف مكونات شعوبها قادرة على الاستمرار في التعايش بسلام وفي أجواء من الاستقرار والتعاون كما كانت دائماً عبر القرون. ولذلك فقد شكل الفقر الشديد والاحتقان السياسي والاجتماعي حاضنتين لكافة أشكال الفوضى والعنف التي عرفتها المنطقة خلال السنوات الماضية، وخاصة مع تنامي وجود جماعات التمرد من الطوارق في شمال مالي، وزاد الأمر تعقيداً السلاح الذي تم تهريبه من مخازن نظام القذافي السابق في ليبيا، قبيل سقوطه النهائي، حيث زاد ذلك السلاح المهرب من خطورة الجماعات الإرهابية والجماعات الانفصالية ومنظمات التهريب والجريمة المنظمة في منطقة الساحل ليصل الأمر إلى حد فصل إقليم «أزواد» بالكامل في شمال مالي، واستهداف المواطنين الغربيين بعمليات الاختطاف المتواترة استدراراً للفديات وابتزازاً للعواصم الغربية، ما استدعى في النهاية التدخل العسكري الفرنسي، بعدما بلغت الأمور درجة لم تعد باريس تستطيع التعامل معها بتردد أو بعدم فاعلية. وبين دفتي الكتاب يحاول مؤلفوه الإجابة عموماً على دفق من الأسئلة من قبيل: ما الذي يجري حقاً في مالي؟ وما الدوافع الحقيقية التي جعلت فرنسا ترسل قواتها إلى أراضي مستعمرتها السابقة مالي؟ وما هو تفسير نزعة التردد والسلمية أو السلبية الظاهرة لدى حلفاء فرنسا العالميين والأفارقة؟ ثم ما هي حقيقة أولئك «الطوارق» الذين نتحدث عنهم كثيراً ولا نكاد نعرف عنهم إلا قليلاً؟ ومن يختبئ وراء جماعات العنف والجريمة والإرهاب في الساحل؟ وأخيراً، على أي نحو ستكون حصيلة التدخل العسكري في مالي وتداعياته ونتائجه على الأحوال الإنسانية، وهي تداعيات ونتائج لابد من وضعها في الاعتبار، في الأخير، للحكم على المآلات النهائية للعملية، بعد نجاحها الباهر في أدائها العسكري، في وقت قياسي. ولكن يبقى سؤال: ماذا بعد؟ وهل ستترتب عليها حلول أبعد نظراً تعتمد مقاربات تنموية، وليس فقط أمنية، تفتح أمام شعوب المنطقة فرص حياة أفضل، وتجفف منابع وتحيّد فرص أي وجود مستقبلي لخطر الجماعات العنيفة؟ وفي المجمل يقدم مؤلفو الكتاب إجابات ومقاربات لكل هذه الأسئلة وغيرها كثير، وهو لذلك يجعل قارئه يكتشف جميع أبعاد أزمة منطقة الساحل الأفريقية، ومدى التحديات التي تواجه فرنسا في مهمتها المالية، في المديين القريب والمتوسط، وكذلك أيضاً التحديات تواجه دول الساحل نفسها، على طريق احتواء المخاطر الأمنية والتنموية المطروحة عليها، وبناء إجماعات وطنية وهويات أكثر صلابة وأقدر على الاستمرار كعوامل توحيد وطني لها، بدل أن تكون عوامل انفصال وتمزيق وتفريق للحمتها الوطنية. حسن ولد المختار ------- الكتاب: الحرب في مالي المؤلفون: مجموعة مؤلفين بإشراف ميشل غالي الناشر: لاديكوفيرت تاريخ النشر: 2013