يبدو أن أوباما قد نجح إلى الآن في امتصاص كل أنواع الضغط التي تعرض لها، خاصة من بعض الدوائر الأميركية المؤثرة والنافذة، من أجل استخدام القوة ضد الأسد على خلفية هجومه المفترض بالأسلحة الكيماوية ضدّ شعبه. لكن بوتين يستحق شكراً خاصاً من أوباما، ذلك أن القرار الروسي الذكي، الذي يقضي بالتعاون مع الولايات المتحدة لإيجاد طريقة عملية لوضع ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية تحت السيطرة الدولية، قد جاء في الوقت المناسب تماماً. ولا يبدو أن أوباما ولا الكونجرس الأميركي في عجلة من أمرهما على الإطلاق لتنفيذ ضربات عسكرية عقابية على أهداف سورية مختارة بدقة، على الرغم من أن هذا التأخير شكّل ضرراً كبيراً للمعارضة السورية. وفي حقيقة الأمر، كان الأسبوع الماضي مدهشاً وحافلاً بالنشاطات الدبلوماسية الدولية، خاصة مع ظهور بادرة التدخل الروسي، التي جاءت على شكل دعوة للتعاون والتخفيف من حدة التوتر، البادرة التي جاءت لتنقذ أوباما من ظرف خاص كان يعاني فيه من تراجع متزايد في شعبيته على مستوى الرأي العام المحلي. وحتى أقرب الداعمين لسياسات أوباما كانوا يتخوفون من أنه لا يحتكم إلى خطة استراتيجية مدروسة للتعامل مع الأزمة السورية، فضلاً على ما أظهره من عجز لإقناع الكثيرين من أعضاء حزبه من أنه يعي ما ينوي فعله حيال الأزمة السورية، ويقدّر جميع الاحتمالات في هذا الخصوص. وفوق كل هذا وذاك، كان الشعب الأميركي يعيش تحت وطأة الخطاب المضلّل واللاذع لبوتين عندما نشر في الحادي عشر من شهر سبتمبر الجاري مقالاً في صحيفة «نيويورك تايمز»، انتقد فيه سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، مستشهداً بالفوضى الماثلة الآن أمام العيان في كل من أفغانستان وليبيا وهازئاً بالزعم المتكرر، الذي يطلقه السياسيون الأميركيون حول تفرّد وتميّز الشعب الأميركي عن بقية شعوب العالم. ومن وجهة نظر بوتين، يكون من الخطأ الجسيم تشجيع الناس على النظر إلى أنفسهم باعتبارهم «استثنائيين»، مهما كانت الدواعي والأسباب، التي قد تبرّر لهم ذلك الشعور حيال ذواتهم. وإنه لمن الصواب إلى حد كبير القول بأن الكثير من الأميركيين يشاركون بوتين هذه الرؤية فيما يخص نبذ فكرة التفرد والاستعلاء. إلا أن الغالبية العظمى ممن يتملكهم هذا الشعور يرون أن من أسوأ مظاهر النفاق الرخيص أن يأتيهم النصح بالانصياع لمبادئ القانون الدولي من قائد سابق في وكالة المخابرات الروسية (KGB) أتى إلى السلطة على خلفية الحروب الدموية الفظيعة، التي شنّها في الشيشان، وأدت إلى موت أكثر من 100 ألف جندي روسي وأكثر من هذا العدد من المدنيين الأبرياء. وهو الذي فرض عليه المجتمع الدولي عقوبات قاسية بسبب غزو دولة جيورجيا عام 2008. ولعل مما يستثير السخرية أكثر من ذلك هو ما يعتقده المراقبون والمحللون من أن هذه المقالة، التي نشرها بوتين لابد أنها من تأليف إحدى شركات العلاقات العامة الأميركية أو البريطانية، التي تكون من دون شك قد تقاضت مبلغاً دسماً من الحكومة الروسية نظير تأليفها وتدبيجها والعمل على نشرها في الصحيفة الأميركية المذكورة. ومع كل هذا الذي حدث، وبالرغم من هذه الأطروحات الاستعراضية الروسية المضللة، والمتعلقة بنقد القيم التي يتمسك بها الأميركيون والاستخفاف بسياساتهم، فإنه في الشأن السوري بالذات، يبدو أن روسيا بدأت تُظهر نوعاً من التحلّي بالمسؤولية. والحق يُقال فإن الاجتماعات المتعددة، التي عُقدت خلال الأيام القليلة الماضية بين كيري ولافروف اتسمت بالجدّية والفعالية. ولعل من الواضح في هذا الخصوص أن روسيا لا تقل رغبة عن الولايات المتحدة في مجال حظر الأسلحة الكيماوية في الشرق الأوسط. ذلك أن روسيا نفسها تواجه عدداً من الفصائل الإسلامية المتطرفة، التي تنشط في جمهوريات منطقة القوقاز المتاخمة لروسيا، مما يبرّر قلق الروس من اندلاع نشاطات إرهابية يمكن أن تؤثر على سير الألعاب الأولمبية الشتوية، التي ينتظر تنظيمها في مدينة سوشي على شاطئ البحر الأسود في شهر فبراير من عام 2014. وقد أصبحت هذه الألعاب تمثل «مشروعاً مُدلّلا» بالنسبة لبوتين شخصياً. ولهذا السبب فإن أي تهديد أو عمل إرهابي يمكن أن يؤدي إلى تأجيلها أو تعليقها أو إلغائها سوف يُعدّ بمثابة الضربة القاصمة لبوتين، داخلياً وخارجياً، وكذلك لكبرياء الروس واعتدادهم بأنفسهم. وقد استثمرت روسيا مليارات الدولارات لإقامة البنى التحتية لمدينة سوشي للتأكد من أنها ستكون قادرة على احتضان الألعاب بنجاح. ولاشك أن آخر ما يفكر فيه الروس الآن هو اندلاع حرب في الشرق الأوسط بسبب التصعيد المتواصل في الأزمة السورية، وخاصة في هذا الوقت الذي تستعد فيه سوشي لاستقبال ضيوفها من دول العالم كافة. ويمكن لهذه الأسباب مجتمعة أن تفسر سعي روسيا وأميركا للعمل معاً على إيجاد حلول للأزمة السورية، واستكشاف ما إذا كان بوسعهما ترجمة مصلحتهما المشتركة في هذه الأزمة واستغلالها للتوصل إلى حلول عملية تصلح لأن تكون سابقة قد تؤدي إلى وضع حد لجميع الخلافات في منطقة الشرق الأوسط. وهذا ما يأمله أوباما، وما تتمناه إدارته كذلك. ولاشك أن هذا الأمل يمثل اختباراً قاسياً للرئيس الأميركي وللفريق، الذي يرسم سياسته الخارجية، كما سيجعل سمعته السياسية كلها على المحكّ.