بعد مرور أربعين عاماً على الحادث المروع الذي وقع في الحادي عشر من سبتمبر 1973، عندما أطاح الجنرال أوغستو بينوشيه بالرئيس المنتخب ديمقراطياً سلفادور الليندي، مازال الأميركيون يتساءلون: هل كان بينوشيه مسؤولاً عن المعجزة الاقتصادية التي جعلت من شيلي قصة نجاح؟ وباعتباري خصماً لدوداً لبينوشيه، يمكنني أن أوكد أنه جسد تناقضاً مربكاً. فقد حصد مديحاً لأنه حول الاقتصاد الذي أداره «فيتان شيكاجو» إلى أكثر اقتصادات أميركا اللاتينية رخاء. وشجع على نمو التصدير وأزال الحواجز التجارية وأسس بنكاً مركزياً مستقلاً يستطيع التحكم في معدلات الفائدة وأسعار العملات وخصخص التأمين الاجتماعي والشركات المملوكة للدولة. وأصبحت شيلي نموذجاً يحتذى في معايير «إجماع واشنطن» للدول التي تسعى للنهوض باقتصادها. والمشكلة الرئيسية عند مبرري أعمال بينوشيه هي وحشيته وفساده. فرغم أن حكومة الولايات المتحدة تدخلت لزعزعة استقرار «الليندي» قبل وبعد أن جاء إلى السلطة ودعمت في بداية الأمر بينوشيه، فلم يحظ الديكتاتور أبداً بصداقة دائمة في واشنطن. ويا ليته حدّث اقتصاد شيلي دون اغتيالات أو تعذيب أو نفي عشرات الآلاف من المعارضين ودون اكتشاف حسابات مصرفية سرية خارج البلاد. الذي يبدو مهماً بالنسبة للمدافعين عن بينوشيه أنه، مثل موسيليني، جعل القطارات تنتظم في مواعيدها المضبوطة. وعلى أي حال، يجب الإشارة، إلى أن أساس تحديث بينوشيه لاقتصاد شيلي قد وضعه سابقوه في ظل حكم ديمقراطي. فالإصلاح الزراعي في ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي قضي على النظام شبه الإقطاعي غير الكفء مما سمح للنظام العسكري أن يحفز الاقتصاد الذي يستهدف التصدير المدعوم بإنتاج زراعي كبير. وبدأت بعض أوجه تحديث شيلي نحو عام 1920. وبحلول انقلاب عام 1973 كان معظم الشيليين يتمتعون بمستوى مرتفع من التعليم (بلغت نسبة الأمية أقل من 10 في المئة عام 1970). وكانت معدلات سوء التغذية ووفيات الأطفال تتراجع منذ عقود. وكانت جامعات شيلي من بين أفضل الجامعات في الأميركيتين وكان البنك المركزي ومصلحة الضرائب ومكتب المراقب العام للعملة من مؤسسات الدولة الراسخة. فنظام حكم بينوشيه ليس شراً لابد منه. فليس من الضروري أن تحتاج دولة إلى طاغية كي تصبح حديثة وتحقق الرخاء. وكتب ماريو فارجاس يوسا الحائز على جائزة نوبل للآداب أن الإصلاحات التي تدخلها الديكتاتورية تتمخض دائماً عن «فظائع تترك آثاراً مدنية وأخلاقية أكثر كلفة قطعاً من بقاء الحال الراهن». وفي النهاية، نادراً ما تزدهر الليبرالية الاقتصادية في غياب الإصلاح السياسي. وبدأت عودة الديمقراطية، عام 1990، بإصلاح الكلفة الاجتماعية لحقبة بينوشيه. وفي العقدين التاليين، نمت شيلي بأكثر من خمسة في المئة سنوياً، فيما يقرب من مثلي معدل النمو في العقود الثلاثة الماضية. وفي نفس الوقت، هبط معدل الفقر في شيلي من 40.8 في المئة عام 1990 إلى 9.9 في المئة عام 2011. ووفق بعض المعايير، فقد ارتفع معدل استهلاك اللحوم من نحو 80 رطلاً للفرد عام 1990 إلى نحو 186 رطلاً، وقفزت نسبة المنازل التي توجد فيها ثلاجات من 55 في المئة إلى 92 في المئة ونسبة المنازل التي بها غسالات ارتفعت بشدة من 37 في المئة إلى 82 في المئة. لكن بيانات برنامج التنمية للأمم المتحدة لعام 2010، تظهر أن شيلي مازالت بين 15 دولة من أكثر دول العالم في عدم المساواة رغم أن برامج الدعم تخفف الفجوة الكبيرة في التفاوت في الدخول. فمازالت المعجزة الاجتماعية في شيلي لم تتحقق بعد. ولتقليص عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية يتعين بذل جهود من أجل تعليم جيد سهل المنال وإصلاح ضرائبي. وقادت الطبقات المتوسطة الجديدة الاحتجاجات في الشوارع في الآونة الأخيرة في شيلي وفي مناطق أخرى من المنطقة. وتشعر هذه الطبقات الغارقة في ديونها والمحبطة بسبب عدم المساواة بأنها هشة وتطالب بخدمات عامة جيدة ومعاملة كريمة. ومثل الهويات المتعددة التي استخدمها بينوشيه في حساباته المصرفية السرية، فهو يعني أموراً مختلفة للجماعات المختلفة. وسيظل البعض يؤكدون على بطولته في الاصلاحات الاقتصادية التي غيرت شيلي وأثرت على دول أخرى. لكن في نهاية المطاف يتعين تذكر أن بينوشيه أنه رمز سيء السمعة للقمع أكثر من كونه مصلحاً اقتصادياً. وظهر رمز على حقبة جديدة قبل شهرين عندما تغير اسم الاحتفال الذي يقام في الحادي عشر من سبتمبر في سانتياجو في ذكرى الانقلاب العسكري الذي قام به بينوشيه عام 1973 بفضل مبادرة من رئيس بلدية جديد على عالم السياسة. ورغم أن ظل بينوشيه الطويل مازال قائماً لكن عصره قد ولى. هيرالدو مونوز الأمين العام المساعد للأمم المتحدة ومدير برنامج الأمم المتحدة لأميركا اللاتينية والكاريبي ينشر بترتيب مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»