أصبح ترويج دعاية مكثفة عن «عودة نظام مبارك» أو «العودة إلى ما قبل 25 يناير 2011» قشة أخيرة تتعلق بها قيادة جماعة «الإخوان» في سعيها إلى خلط الأوراق وصرف الأنظار عن خطر الإرهاب الذي يتصاعد واصطناع خطر وهمي أو خيالي. ويسعى قادة «الإخوان» الذين أطلقوا تلك الفزّاعة الجديدة إلى التأثير على مواقف المجموعات والحركات الشبابية التي كان لها دور رئيسي في انتفاضة 2011، ثم تراجع دور كثير منها بسبب الارتباك في إدارة المرحلة الانتقالية الأولى ونتيجة الصراعات بينها خلال تلك المرحلة. فقد التقط بعض أعضاء هذه المجموعات والحركات، وخاصة تلك التي لم يكن لها دور أساسي في انتفاضة 30 يونيو، الفزّاعة التي أطلقتها قيادة «الإخوان» رغم أنهم لا يشاركونها ادعاءها أن انتفاضة 30 يونيو لم تكن إلا انقلاباً عسكرياً. فبعد أن فشلت قيادة «الإخوان» في ترويج مزاعم أن انقلاباً حدث على «شرعية صندوق الاقتراع» أو «شرعية الرئيس المنتخب»، وبسبب انكشاف حقيقة إمعانها في الاتجار بالدين، لم تجد ما يمكن أن تتاجر به إلا انتفاضة 25 يناير. لذلك أطلقت الفزاعة التي تزعم أن ما حدث في 30 يونيو الماضي، وتأكد يوم 3 ثم 26 يوليو التالي، هو انقلاب على انتفاضة 25 يناير. وراهنت على أن تلقى هذه الفزاعة هوى لدى مجموعات وحركات شبابية كان دور معظمها قد تراجع، حتى قبل انطلاق «حملة تمرد» التي ارتكبت خطأ عندما اتجهت إلى تهميش قادة تلك المجموعات والحركات بمساعدة من السلطة الانتقالية الحالية. ويبدو الرهان على تأليب هذه المجموعات والحركات ضد ثورة 30 يونيو والإدارة الانتقالية الراهنة، أحد أهم العوامل التي تمنح قيادة «جماعة الإخوان» أملاً في إمكانية التشويش على المعركة الحقيقية في مصر الآن وهي مواجهة حرب الإرهاب التي أعلنتها على الشعب، وخلق معركة أخرى تحت شعار «استعادة ثورة 25 يناير»، أو مقاومة العودة إلى ما قبلها، والتصدي لما يقال إنه «عودة نظام مبارك». ويستغل مروجو هذه الفزاعة اتجاه عدد من الوجوه التي تعتبر محسوبة على نظام الرئيس الأسبق إلى تصفية حسابات سياسية وشخصية بطريقة تساعد في محاولة خلق حالة من الخوف من «عودة نظام مبارك»، فضلاً عن مهاجمة بعضهم انتفاضة 25 يناير ووصفها بأنها «نكسة». كما حدث تلاعب بقرار محكمة الجنح المستأنفة إطلاق سراح مبارك يوم 22 أغسطس الماضي مع استمرار محاكمته في ثلاث قضايا، ضمن الترويج لفزاعة عودة نظامه، رغم أن توقيت هذا القرار القضائي كان محض مصادفة نتجت عن استنفاد فترة احتجاز أي منهم احتياطياً على ذمة قضايا منظورة أمام المحكمة. ولم يحل قرار وضع مبارك قيد الإقامة الجبرية في المستشفى، ثم مثوله أمام قاضيه وجلوسه في قفص المحكمة مجدداً بعد ثلاثة أيام فقط على قرار إخلاء سبيله، دون استغلال هذا القرار ضمن معزوفة الترويج لفكرة عودة نظامه، سعياً إلى إرباك المشهد السياسي الانتقالي الراهن. لكن رغم عدم وجود أساس قوي لهذه الفكرة، يبدو قبولها من جانب حركات وجماعات شبابية وطنية وديمقراطية مكسباً لمن يستخدمونها وسيلة لإرباك المرحلة الانتقالية ومحاولة إفشالها. ولا ينبغي الاستهانة بمثل هذه المحاولات حتى إذا لم تكن لها قاعدة شعبية مؤثرة اليوم، لأن المزاج الجماهيري متغير بطبعه، كما أن عدم تحديد المقصود بعودة نظام مبارك أو العودة إلى ما قبل 25 يناير بدقة لا يكفي لانتفاء خطر هذه الفزاّعة، حتى إذا بدت لمن يستخفون بها أقرب إلى أحاديث مرسلة لا يخرج من يستمع إليها بنتيجة محددة. فالخطر يكمن في نجاح محاولات «الإخوان» أحياناً لدفع قوات الأمن للتصرف بطريقة يمكن استخدامها للتخويف من إمكان العودة إلى ممارسات ما قبل 25 يناير، الأمر الذي يوفر أساساً ما لتعريف «العودة إلى نظام مبارك»، بحيث يكون المقصود به استعادة الدولة التي يُطلق عليها أمنية أو بوليسية، بغية خلق حالة فزع في أوساط الطبقة الوسطى بصفة خاصة، لأنها الأكثر حساسية لأي ممارسات من هذا النوع. غير أن هذه الفزاّعة تغفل التحول الكبير الذي يجعل عودة هذا النوع من الممارسات الأمنية أمراً صعباً. لكنه ليس مستحيلاً. فثمة تحول تاريخي يحدث في مصر الآن وتشيع في ظله ثقافة سياسية جديدة تقوم على التمسك بالحقوق. وهذا تحول إيجابي رغم ما ينطوي عليه من إفراط ينتج عن تسلط طال أمده. فما أن تخلّص المصريون من هذا التسلط حتى أفرطوا في المطالبة بحقوقهم كافة دفعة واحدة. وهذا أمر مفهوم في ظل قاعدة أن فائض التسلط يؤدي إلى إفراط في ممارسة الحرية. لذلك، لا تواجه مصر اليوم خطر الارتداد إلى حالة الحرمان من الحقوق، بمقدار ما تعاني سلبيات عدم التوازن بين ممارسة هذه الحقوق وأداء الواجبات. وثقافة هذا طابعها تمثل حائط صد ضد أية محاولة للعودة إلى ما قبل 25 يناير. لكن المهم هو أن تحرص السلطة الانتقالية على تجنب الممارسات التي تستغلها جماعة «الإخوان» لضم مجموعات وحركات شبابية إليها بشكل أو بآخر. ويفرض ذلك تدعيم التحسن الذي يحدث الآن في أداء الأجهزة الأمنية المصرية رغم نجاح «الإخوان» أحياناً في استدراج بعضها إلى ارتكاب تجاوزات محدودة هنا أو هناك، فقد استوعبت هذه الأجهزة الدرس، وعادت إلى حضن الشعب عبر أدائها الإيجابي خلال انتفاضة 30 يونيو، الأمر الذي حقق مصالحة تلقائية بدت كما لو أنها معجزة. لذلك تعيش أجهزة الأمن المصرية أفضل أيامها الآن، وهي تحظى بتقدير الشعب وتعاطفه. وينبغي أن تقوم السلطة الانتقالية بدورها من أجل المحافظة على هذه الحالة التي لا سابقة لها في تاريخ العلاقة بين الأجهزة الأمنية والشعب، عبر تطوير أداء الحكومة والإسراع بحل المشاكل الأكثر إلحاحاً لتبقى أغلبية المصريين ملتفة حولها، وبناء توافق وطني واسع على خريطة المستقبل لأن هذا هو السبيل إلى مصر جديدة حقاً. وعندئذ سيتأكد أن الخطاب الذي يحذر من عودة الدولة الأمنية أو القمعية تحت شعار «عودة نظام مبارك» مفارق للواقع، وتضعف قدرة من يستخدمونه سعياً إلى خلق حالة من القلق تجعل من هم أكثر عرضة للإصابة بها مستعدين لاتخاذ مواقف تصب في مصلحة قيادة «الإخوان» التي ترّوج هذا الخطاب. وفى هذه الحالة سيكون الوعي الشعبي المصري، الذي تنامى خلال نحو ثلاث سنوات بأكثر مما تطور في ثلاثة قرون، عائقاً أمام أية فزاعة يهدف مستخدموها إلى تغيير المشهد الراهن لتحقيق مصالحهم.