أبرزت وسـائل الإعلام العربية عامة، والمصرية خاصة، خبر زيارة الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى مصر الأسبوع الماضي. وأعطت تصريحات سموه خلال الزيارة، عناوين رئيسية (مانشيتات) لوسائل الإعلام المختلفة، لاسيما المتعلق منها بدعم مصر سياسياً واقتصادياً في هذه اللحظة التاريخية. وأكاد أجزم بأن حديث سموه في هذا الشأن، ليس حديث حسابات مصالح سياسية فحسب، فهو من زاوية أخرى يخرج من شخص غيور على مصالح الأمة العربية ويعرف مكانة مصر في الاستراتيجية الإقليمية ويقدر موقفها القومي. وقد عبّرت الفعاليات السياسية والاقتصادية المصرية عن ارتياحها لزيارة سموه، ليس انطلاقاً من المكانة التي يمثلها سموه في صناعة القرار السياسي الإماراتي فحسب، ولا من كون الإمارات هي الدولة الأولى في العالم التي أعلنت تأييدها لتحرك الجيش المصري لتلبية «تفويض» الشعب المصري بإخلاء الميادين التي شلت الحياة في مصر، وإنما لأن سموه يحمل معه في زيارته رسالة تضامن إماراتية دافئة إلى الشعب المصري. إن ردود فعل المصريين -كما أظهرتها وسائل إعلامهم المختلفة- تشير إلى أن الزيارة أحيت فيهم التفاؤل والأمل بعد العديد من الإحباطات والانتكاسات التي وقعت بين 2011 و30 يونيو الماضي، كما رجحوا أن تكون الزيارة سبباً في أن يفهم العرب الآخرون واجبهم تجاه مصر. ولذا، فإن الزيارة كانت بمنزلة إشارة إماراتية للعرب بأن ينتبهوا لما يُدبَّر لمصر من قبل بعض الدول الكبرى، بل إن بعض المراقبين رأى في الزيارة الإماراتية تسجيلاً لموقف عربي موجَّه إلى قوى خارجية، مفاده أن مصر ليست وحيدة في مواجهة الفوضى، وأن الضغوط التي تُمارس عليها لن تفلح. ولهذا فلابد أن يدرك العالم أن مصر قوية بالعرب، كما أن العرب أقوياء بمصر. وإذا تجاوزنا أبعاد الزيارة البالغة الأهمية، لوجدنا أن هناك تحولات استراتيجية في المنطقة. وهذه التحولات فارقة، والمشكلة أنها تحدث بعيداً عن دور عربي فاعل، بل إن كل هذه التحولات تتركز في الدول العربية. والمشكلة الأكبر أن هناك بعض الدول العربية تسهم سلبياً فيها، ومن هنا يكون غياب مصر وتراجع دور العرب في الإقليم الذي تتقاسم الأدوار فيه تركيا وإيران -ومعهما إسرائيل أحياناً- هو الأمر المؤسف، بل إن هناك مساعي حقيقية لإبعاد مصر بشكل مقصود من أجل الانفراد بباقي الدول العربية. وإذا لم تنجح هذه المساعي في تقسيم مصر أو إثارة الفوضى فيها، فإنها قد تُجبر الدولة العربية الكبرى، تحت الضغط المبرمج، على الاكتفاء بالجلوس في مقاعد المتفرجين إزاء ما يحصل في الإقليم، وهذا ما لا ترضاه القيادة السياسية الإماراتية. إن غياب مصر كان نتيجته إضعاف الموقف العربي وإصابته بشلل سياسي في العديد من قضاياه الجوهرية، وإحداث فراغ هائل حتى في الصراع العربي الإسرائيلي. وتعرضت هذه القضايا للضياع بين طموحات تركيا الإقليمية ورغبات إيران في تمديد نفوذها في الداخل العربي. ولو توسعنا لوجدنا أن تغييب مصر نتيجته أيضاً أن العالم العربي أصبح يعيش حالة «ارتباك استراتيجي»، على اعتبار أن الدولة «القائد» غير موجودة، ما يعني محاولة الآخرين لعب دور القائد. ومن النتائج أيضاً ظهور قوى أخرى تريد أن تعيد تقسيم الدول العربية وفق اعتبارات لا علاقة لها بالوطنية، وإنما بالانتماءات السياسية والطائفية، في ظل حالة من السيولة تشهدها الأوضاع الداخلية في دول عربية عدة. ويكاد الأمر يشمل كل الدول العربية، مع أنه لا يحدث في الدول الإقليمية غير العربية التي يكاد يكون وضعها الداخلي أسوأ من نظيره في الدول العربية، ما يجعل احتمالات وجود مخططات تستهدف الدول العربية أمراً وارداً، بل مُرجَّحاً. هذه هي الفكرة الأساسية من زيارة سمو ولي العهد إلى مصر، لأن غياب مصر عن الساحة السياسية، نتيجة التحديات الداخلية، كان من بين الأسباب التي جعلتها غير قادرة على التحرك خارجياً. وهذا ما أدركته القيادة الإماراتية عندما ركزت في دعمها لمصر على المشروعات الداخلية، وكذلك على التحديات الخارجية المتمثلة في «الأحلاف الجديدة» في الإقليم والتنظيمات العابرة للحدود. إن ما فعلته الإمارات من خلال هذه الزيارة لم يتعدَّ أنها وفّرت مرونة للحكومة المصرية المؤقتة التي تعيش لحظة تاريخية دقيقة، أتاحت لها قدراً من حرية التعامل مع الضغوط الدولية التي سعت لإجبارها على التخلي عن إرادة شعبها. وبتعبير آخر، فإن الدعم الإماراتي ساهم في تحرير القرار السياسي الوطني المصري، ومنح مصر هامشاً من القدرة على التحرك والتركيز على اتخاذ قرارها المصيري بمعزل عن ضغوط الخارج، وهذا ما يمكن أن نفهم في إطاره تقدير الشعب المصري لموقف الإمارات، خاصة أننا وجدنا أن لغة الدول الضاغطة بدأت تتغير. الإمارات لا تريد أن تكون مجرد في أيدي الذين «يبلورون» المنطقة وفق مصالحهم، فهي مؤهلة لأن تصبح صاحبة قرار في محيطها، ولا تريد أن يكون ما يحدث في منطقتها خياراً يفرضه الآخرون عليها، وهي تنطلق في سياستها تجاه مصر من رؤية استراتيجية ترى أن فاعلية القرار العربي مرتبطة بالدولة المصرية القوية؛ لأن الخبرة التاريخية العربية تؤكد دائماً أن قوة العرب مرتبطة بمصر القوية، وتنحية مصر تعني ضعف القرار العربي. وأخيراً، فإن زيارة الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد إلى مصر تستدعي نقطتين على العرب أن يدركوهما: النقطة الأولى، أنه لا ينبغي أن نترك مصر تواجه الإرهاب وحدها، ففي الكثير من القضايا العربية كانت مصر في المقدمة، ولذا فيجب الوقوف معها كي تعود قوية لصالح العرب. النقطة الثانية، أن هناك مخططات إقليمية وعالمية من أجل إعادة تشكيل المنطقة العربية؛ ولذا فإن التحدي كبير، وبالتالي فإن الجهد المطلوب من العرب كبير ويتطلب قرارات جريئة وصادقة بحجم القرار الإماراتي.