يطرح أستاذ العلوم السياسية والمحلل السابق في الاستخبارات الأميركية، جورج فريدمان، في كتابه «العقد المقبل: أين كنا... وإلى أين نتجه؟» فكرة أساسية مؤداها أن الولايات المتحدة تطورت من جمهورية إلى إمبراطورية من دون أن تمُكن نفسها من الأدوات الإمبراطورية اللازمة لإدارة العالم. وهذا التحول، يقول الكاتب، حصل دون قصد، فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي بالطريقة المفاجئة التي شهدناها وجدت أميركا نفسها زعيمة للعالم مع ما يترتب على ذلك من أعباء ومسؤوليات لا تتماشى مع قيم الجمهورية، وقد حصر المؤلف دراسته في العقد القادم بعدما تطرق في كتاب سابق إلى القرن المقبل، محاولًا استشراف الوضع الأميركي على مدى المئة عام المقبلة. ويركز عليه المؤلف في كتابه الأخير على رصد التحديات والمشاكل التي ستواجه أميركا في العشرة أعوام المقبلة، ومن بين تلك التحديات ما يرتبط بفهم أميركا لطبيعة قوتها العالمية، إذ ينتقد الكاتب بعض الدعوات التي تطالب بالنظر إليها على أنها دولة عادية، معتبراً ذلك تزييفاً لحقيقة كونها القوة العظمى الأولى في العالم، ويُبرهن على ذلك احتكارها لـ 25 في المئة من النشاط الاقتصادي العالمي، وإنتاجها لـ 25 في المئة من إجمالي الناتج العالمي، هذا بالإضافة إلى إنفاقها العسكري الهائل، وهيمنتها على المحيطات والممرات البحرية ما يجعلها هي المتحكمة الأولى في التجارة الدولية التي تتم غالبيتها عبر البحار والمحيطات. وبدلاً من دفن أميركا لرأسها في الرمال يجب عليها، كما يقول الكاتب، مواجهة واقعها بأنها قوة عالمية، وأنها إمبراطورية وإن كانت تختلف عن باقي الإمبراطوريات التي شهدها التاريخ. فالولايات المتحدة اليوم تفتقد لآليات الحكم العالمية، أو المؤسسات التي تتيح لها التدخل المباشر، وأي محاولة للقيام بذلك من خلال استخدام القوة لن يُكتب لها النجاح كما يشهد على ذلك العراق وأفغانستان، فالتحدي الأول الذي يضعه الكاتب هو الإقرار الصادق بالوضع الأميركي ليس ترويجاً لأميركا ودفاعاً عنها كإمبراطورية، بل فقط إقراراً بالواقع، وهو ما يقودنا إلى تحد آخر يصطدم بالقيم الجمهورية للولايات المتحدة التي تجعلها في تناقض مع وضعها المستجد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وهذا التناقض، يتعين على أميركا إدارته بحنكة من خلال مؤسساتها الداخلية دون التسبب في انقسامات، فمن المعروف أن أميركا كأمة قامت على مشروع أخلاقي وأساس مثالي، وقد أنشأت دولتها مذ كانت بضع ولايات مبعثرة في الشمال الأميركي على فكرة التحرر من الاستعمار البريطاني، ولذا فحتى بعدما برزت قوتها عقب الحرب العالمية الثانية لم تخف رفضها للاستعمار، غير أن مشكلة أميركا وهي التي أصبحت إمبراطورية، بحكم الواقع وليس بحكم الطلب، أن مؤسساتها الجمهورية التي أقامها الآباء المؤسسون لا تناسب القوة الهائلة التي تملكها ولا تسهل إدارتها عالمياً، ما يستدعي مقاربة جديدة تستند إلى خلق التوازنات وإدارتها. وهذه النقطة يعتبرها الكاتب أساس الاستراتيجية الأميركية في المرحلة المقبلة، فلكي تتغلب أميركا على تناقضها بين واقعها كإمبراطورية وبين مُثلها الجمهورية لابد لها أن تعتمد على التوازنات الدولية. ولا يتحرج الكاتب هنا من الدعوة إلى انتهاج الميكافيلية في سياستها الخارجية. ويعتمد المؤلف في هذا التحليل على التاريخ، فمن جهة أظهر استخدام القوة والتدخل السافر في عدد من المناطق محدودية هوامش التحرك، ولاسيما بعد التعثر الواضح في حربي العراق وأفغانستان، ليس لأنهما لم تُحققا الفوز العسكري، بل لأن الأهداف الاستراتيجية ظلت بعيدة المنال. ومن جهة أخرى يثبت التاريخ الأميركي جلوس روزفلت مع ستالين، ونكسون مع ماو تسي تونج في خيارات سياسية ميكافيلية واضحة. ومع أن أميركا نجحت في تدمير الجيش العراقي والإطاحة بنظام صدام، وهما هدفان كانا موجودين منذ البداية، إلا أنها فشلت في إقامة نظام موال لها بسبب التدخل الإيراني، وهذا التدخل إن كان لا يستطيع الهيمنة المباشرة إلا أنه قادر على عرقلة الأهداف السياسية الأميركية. كما أن التوازن الضروري الذي كان قائماً بين العراق وإيران انهار ليفسح المجال اليوم لتوسع النفوذ الإيراني في المنطقة لتبقى الخيارات الأميركية محدودة في العراق، فإما الانسحاب وبالتالي تقوية النفوذ الإيراني، أو البقاء بقوات صغيرة دون فاعلية، أو التوصل إلى اتفاق مع إيران سيكون بالأساس لصالح هذه الأخيرة. والأمر نفسه ينطبق على إسرائيل والفلسطينيين، حيث يرى الكاتب أنه من الضروري إقامة التوازن بين الجانب العربي وإسرائيل لضمان عدم انفلات الدولة العبرية من عقالها ودفعها المنطقة إلى مواجهة كبرى تضطر أميركا إلى التدخل فيها. ولو أن أميركا أقامت نظاماً لتوازن القوى في سياستها الخارجية لأمكنها، حسب الكاتب، التقليل من استخدامها للقوة العسكرية وتبديد ذلك التناقض بين واقعها الإمبراطوري وقيمها الجمهورية. زهير الكساب ----- الكتاب: العقد المقبل: أين كنا... وإلى أين نتجه؟ المؤلف: جورج فريدمان الناشر: دوبلداي تاريخ النشر: 2013