يمثل التعارض الأزلي بين مفاهيم «المذهب الواقعي» realism و«المذهب المثالي» idealism أحد أهم المظاهر القائمة في العلاقات الدولية. ففيما يُنظر إلى المذهب الأول على أنه دعوة للكفاح الدائم لاقتناص السلطة، فإن الثاني يدعو إلى خلق بيئة عالمية تسودها المساواة واعتماد الحلول السلمية للصراعات السياسية والالتزام بمبدأ سيادة القانون. ويمكن للميل إلى العمل بنظام تعزيز سلطة الدولة وعدم الانصياع للقانون الدولي أن يخلق بيئة يسودها التنافس لامتلاك نواصي القوة والنفوذ على حساب مصالح المجتمعات والدول. وقد أذهل أوباما الناس عبر العالم عندما كان مرشحاً ديمقراطياً، بوعوده البراقة بأنه سينحو تجاه الدبلوماسية الناعمة والحوار البناء لحل مشاكل الحروب والصراعات القائمة في عالم اليوم، والذي وعد بترجيح كفة العمل الجماعي الدولي على العمل الأحادي، هو الذي وعد أيضاً بتحويل العلاقات الدولية من سلسلة صراعات لا تعرف لها نهاية بحثاً عن السيطرة والنفوذ، إلى ميدان لتعزيز التعاون من أجل ترسيخ ودعم السلام. كما أن مشروعه المدهش الواعد باحترام القانون الدولي والسعي إلى السلام الذي تجلى من خلال شعاره الشهير: «نعم نستطيع»، دفع المجتمع الدولي للدعوة لمنحه جائزة نوبل للسلام. وهي المرة الأولى التي تمنح فيها هذه الجائزة ليس من أجل سلام ناجز تحقق على أرض الواقع، بل من أجل الوعد بتحقيق سلام نحلم بأن يخيّم على العلاقات الدولية وإن لم يتحقق بعد. والآن دعونا نأخذ الأزمة السورية الراهنة مثالاً ومعها الحرب التي يُنتظر شنها على نظام ذلك البلد بسبب استخدامه للأسلحة الكيميائية ضد الثوار المعارضين له. ومن المعروف أن استخدام القوة هو أصلاً سلوك غير مشروع في القانون الدولي. إلا أن هذا القانون يسمح باستخدام القوة في حالة واحدة فقط: الدفاع عن النفس. وقد عمد مجلس الأمن الدولي إلى وضع تعريف للدفاع عن النفس فقال إنه عمل يأتي كرد فعل على هجوم وشيك ومدمّر لا يترك فرصة أخرى للتصرّف. ووفقاً لهذا التوصيف فإن الهجوم الأميركي المنتظر على سوريا لا يقع في إطار الدفاع عن النفس. وسوريا ليست بصدد التحضير لهجوم تشنه على الولايات المتحدة، وواشنطن ذاتها لم تعلن أن هجومها المنفرد على سوريا يندرج ضمن إطار الدفاع عن النفس. ويأتي الاستثناء الثاني لمبدأ عدم جواز استخدام القوة العسكرية في سوريا من مجلس الأمن ذاته. فقد أشار الأمين العام للأمم المتحدة إلى أن مهمة المفتشين التابعين للمنظمة الدولية في سوريا هي التي ستكشف وحدها ما إذا كان الهجوم الكيميائي قد وقع أم لا. مع العلم أن وظيفتهم لا تشمل تحديد الطرف الذي قام بالهجوم. وبالنظر إلى أن مشروع القرار الذي تقدمت به بريطانيا إلى مجلس الأمن، والذي يطالب باستخدام القوة ضد النظام السوري، قد قوبل بمعارضة روسيا والصين ، فإن من غير المحتمل أن يسمح مجلس الأمن باستخدام القوة ضد النظام السوري تحت أي بند آخر. وهذا بالضبط ما يجعل من الحملة العسكرية التي تعد لها واشنطن ضد النظام السوري عملاً ذا طبيعة استثنائية، وخاصة أن واشنطن ذاتها لم تصرّح بأن القانون الدولي يقف إلى جانبها. وبدلاً من ذلك، أشارت إلى أن القضية تندرج ضمن إطار المسؤولية الأخلاقية. وهذا الطرح مبني على فرضيتين تثيران التساؤلات: تقضي الأولى بأن نظام الأسد استخدم السلاح الكيميائي ضد شعبه، وتقضي الثانية بأن على الطرف المدّعي (واشنطن) أن يذهب إلى المحكمة الدولية. ويرى المنتقدون إنه لا يوجد ثمة من داعٍ لأن تأخذ واشنطن بالافتراضات التي تفيد بأن نظام الأسد هو المتورط في استخدام الأسلحة الكيميائية ضد شعبه على أساس أنها قرائن لا تقبل النقض. ولم يعد من المفاجئ بالنسبة لنا أن نرى، وفقاً لما أشار إليه أحد محرري صحيفة «نيويورك تايمز»، الشعب الأميركي وهو يتمنى أن تكون هناك مسافة فاصلة بين ما تقوله الصحف الأميركية وما تقوله حكومته. وقال المحرر حرفياً: «إن الشعب لا يريد أن يسمع قرع طبول الحرب». وفيما يتعلق بالوازع الأخلاقي، فإن من المؤسف القول إن واشنطن لا تمتلك حق احتكار الحكم على القيم الأخلاقية في العلاقات الدولية. وهناك قائمة طويلة من السلوكات والأفعال السيئة التي تؤكد ذلك. ومن ذلك أن أوباما ووزير خارجيته كيري عبّرا عن سخط شديد من قتل هذا العدد الكبير من السوريين الأبرياء في الهجوم الكيميائي المفترض من طرف النظام السوري. إلا أن عملاً سيئاً مساوياً في الخطورة ضد الأبرياء حدث عبر التاريخ القريب عندما قرر الرئيس الأميركي هاري ترومان إلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي (عام 1945) ليس من لأسباب عسكرية حتى تجثو اليابان على ركبتيها، بل لأسباب سياسية ترمي إلى تخويف الروس الشيوعيين من قوة السلاح الذري الجديد الذي أصبح بين يدي الولايات المتحدة. ولنتذكر أيضاً المستوى غير المعهود من التخلي عن مبادئ الأخلاق عندما سُجل موت ملايين المدنيين العراقيين نتيجة للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على العراق. وبعد أشهر قليلة من دخول أوباما البيت الأبيض سافر إلى القاهرة. وألقى هناك خطاباً مسهباً وعد من خلاله بحلول عهد جديد من العلاقات بين الولايات المتحدة والعالمين العربي والإسلامي. وكانت الإشارة المهمة هي تلك التي ركزت على أن تلك العلاقات ستُبنى على أساس الاحترام المتبادل والتعاون في مجال ترقية المصالح المشتركة. ولكن، من أحداث قصف ليبيا بالقنابل وحتى تسليح المعارضة السورية إلى الموقف والمتناقض من الثورتين المصريتين، فعل أوباما ما يدعو إلى خيبة الأمل بأكثر مما فعل لاستثارة الإعجاب. وأنا أتساءل الآن عما باتت تفكر فيه لجنة منح جائزة نوبل للسلام.