هل فعلاً دخلت مصرُ مرحلة جديدة.. وهل أن التاريخ لن يعود إلى الوراء، كما يكرر ذلك من يملكون مقاليد الحكم حالياً.. وأن على المصريين النظر إلى المستقبل ويتركوا الماضي خلف ظهورهم؟ قد تبدو هذه الأسئلة سهلة من الناحية النظرية؛ ولكن قراءة متأنية لأوراق الواقع، قد تجعلنا لا نبالغ في التفاؤل «الوردي»، ونفترض أن هنالك منغصات قد يواجهها الشعب المصري في المستقبل القريب. إن قراءة سريعة للعناوين المتعلقة بالشأن المصري في بعض الصحف الخليجية تؤيد هذه النظرة: - 28 قتيلاً من أنصار «الإخوان» بهجوم مسلح لتهريب سجناء. - الحكومة المصرية تؤكد استمرار مواجهة الإرهاب. - اعتقال وحبس 1066 من مؤيدي مرسي خلال 24 ساعة. - تهاوي (الإخوان) إثر اعتقال رؤوس الإرهاب. - «الجماعة» تُبيّتُ سيناريو التخريب الشامل. - الرئاسة المصرية: المتطرفون أعانوا حرب استنزاف. - شعب وجيش وشرطة مصر يصدّون عنف «الإخوان». - أنصار «الإخوان» يُلفقون تهم القتل للشرطة. - حكومة مصر تؤكد التصدي للمخربين بكل الوسائل. - السيسي: مصر تتسع للجميع والشرعية مُلك الشعب. هذه مجموعة من العناوين التي ظهرت في بعض الصحف الخليجية، وتبدو في صفّ الثورة الثانية وتُدين «الإخوان المسلمين». وثمة عناوين أخرى تبدو مع «الإخوان»، وقد ظهرت كالتالي: - مصر: عشرات القتلى والجرحى في «يوم غضب» دامٍ. - الإسلاميون في دول عدة يتظاهرون تأييداً لمرسي. - «العفو الدولية» تطالب بتحقيق كامل في المواجهات الدامية! - الأمن يقتحم مسجد الفتح ويعتدي على المعتصمين! - الاتحاد الأوروبي يهدد بإعادة النظر في علاقاته مع مصر. وهكذا وجدَ الإنسان العربي نفسه في «مأزق» التفسير أو التكهن بمدى صحة بعض ما يُنشر في الصحف العربية أو ما تتناوله الفضائيات فيما يتعلق بالشأن المصري، لأن كل فضائية «تغني على ليلاها». ونلاحظ أن مناصري «الإخوان» ينتقدون استخدام الأمن والجيش للقوة، ما أدى إلى سقوط المئات من القتلى والجرحى، وقد تم توقيف الرئيس المعزول وبعض رموز تنظيم «الإخوان». وللطرف الآخر -وهو الحكم الحالي في مصر وأنصاره- أيضاً مبرراته ووثائقه المبرهة على أن المظاهرات الإخوانية -طويلة المدى- لم تكن سلمية، وأنه تم تصوير حالات استخدام البنادق وإطلاق الرصاص والسلاح الأبيض والحرائق والاعتداء على الكنائس وتلويث المساجد وغيرها. ناهيك عن شكوى الأهالي من ارتباك حياتهم في الأماكن التي شهدت مظاهرات حاشدة. كما أن الثورة الثانية قد جاءت على خلفية فشل الرئيس المعزول (محمد مرسي) في إدارة البلاد بعيداً عن التوجه «الثيوقراطي» الذي تحوّل إلى «فاشستية دينية» كما يردّد ذلك ضيوف برامج التليفزيون المصري. وبالطبع لا يملك الإنسان التنبؤ بما سيحصل غداً! إلا أن المؤشرات تصبُّ في خانة اللاعودة إلى الوراء، وأن مصر ماضية في طريق جديد يخالف هوى «الإخوان»! وعلى هذا الطريق قد يطال العنفُ الأبرياءَ، بل وقد يسقط المزيد من أبناء مصر -من رجال الأمن والجيش- في حال اندلاع مواجهات أو استهدافات سرية على شكل مجموعات انتحارية، تعكر صفو الاستقرار. إن إعلان وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي أن مصر تتسع للجميع، ومطالبته جماعة «الإخوان المسلمين» بمراجعة مواقفها، تواجهها إعلاناتٌ مضادة من جانب «الإخوان» عن الدماء التي سالت في مواجهات الاعتصامات، وأعداد الموقوفين الذين لهم أهل وأتباع قد لا يجدون أنفسهم في الشكل الجديد للحكم القادم، بل وقد تضيق بهم أرض مصر الفسيحة! وهذا قد يدفعهم إلى العنف وتعكير مزاج السلطة المقبلة، ما يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الاعتصامات والأعمال المسلحة. وإذا صدر قرار بحظر جماعة «الإخوان» فقد تكون المواجهات أصعب، على الأقل في الفترة الأولى. نحن العرب نحلم بدولة عربية ديمقراطية حقيقية، بعد أن أوهمونا بدول «كارتونية» لأكثر من أربعين عاماً! لكن المشكلة أن تلك الدول «الكارتونية» لم تـُسِل خلال حقبها الطويلة الدماء قدرَ ما سال خلال عامين من عمر الثورات العربية! وما زالت الدماء السورية تسال والبيوت تتهدم، تماماً كما هو الحال في العراق -الذي دخل عامه العاشر من دوامات العنف المجنونة ومواجهات «العنف الانتقامي»، ناهيك عن ليبيا واليمن. إن الحلم الجديد أن تظهر مصر من ركام الأحداث الدامية بنموذج ديمقراطي يضع الأمور في نصابها، ويتجاوز الأنظمة العربية في التعاطي مع الديمقراطية، وأن تكون تلك الديمقراطية مظلة لجميع المصريين بدون استثناء، حتى لا يشعر أي فريق منهم بالغبن أو الإقصاء. وأن تجرى الانتخابات في أجواء شفافة، ويعود الجيش لحماية الثغور، ويتفرغ لمهماته الأساسية في حفظ الأمن القومي لمصر، وبذلك يدحض الاتهام للثورة الثانية بأنها «انقلاب عسكر»! إن مصر الجديدة بحاجة إلى الدولة الوطنية التي تنتمي إليها كل الفئات والجماعات في تناغم يؤكد الانتماء للوطن لا للجماعة أو العرق أو الدين، حيث تلتقي تلك الجماعات على قيم العدالة والمشاركة السياسية، ووجود مجتمع مدني فاعل، مع عدم إضفاء طابع «مقدس» على الحكم، كما حصل في السابق. ولن تتحقق الدولة الوطنية دون تحقق المواطنة لجميع أفراد الشعب بلا استثناء. ولذلك فإن الأمل أو الحلم الجديد قد لا يكون قريباً في ظل «فوران» العنف الحالي، ولكنه لن يكون مستحيلاً أيضاً.