لم يكن الفريق أول عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع المصري في حاجة لأن يقسِم عندما روى ما سمعه من بعض قادة جماعة «الإخوان» خلال إحدى المحاولات التي قام بها لنصحهم بإبداء مرونة لحل الأزمة التي تفاقمت قبل انتفاضة 30 يونيو، وهو أنهم سيحكمون لمدة خمسمائة سنة. فقد ظهر منذ نوفمبر الماضي أن جماعة «الإخوان» استخدمت الانتخابات سُلماً للصعود إلى السلطة، ثم أخفت هذا السلم الذي كان يسمح لأي طرف باستعماله وبدأت في صنع سلم آخر لا يستطيع أحد الصعود عليه غيرها. كان إصدار مرسي قراراً في 21 نوفمبر 2012 أسماه إعلاناً دستورياً، وما هو كذلك، بمثابة الضربة الرئيسية الأولى لعملية التحول الديمقراطي التي بدأت عقب التغيير الذي ترتب على انتفاضة 25 يناير 2011 وقاد إلى إجراء الانتخابات الرئاسية التي أُتيح له فيها الوصول إلى السلطة بفضل أصوات من أُطلق عليهم «عاصرو الليمون» الذين لم يقترعوا لمصلحته تفضيلاً له أو لجماعته بل اعتراضاً على منافسه الفريق أحمد شفيق. كان ذلك الإعلان بداية الانقلاب على القواعد الديمقراطية الأساسية، حيث أعطى من لا يملك نفسه وجماعته ما لا يحق له ولها. فلم يكن رئيس الجمهورية يملك في ذلك الوقت سلطة التأسيس التي تمكّنه من إصدار أي إعلان دستوري سواء ذلك الذي أصدره أو غيره. ولكنه اغتصب سلطة ليست له واستخدمها لكي يعطي نفسه، ومن أجل جماعته، صلاحيات ليست من حقه عندما حصّن الكثير من قراراته ضد الطعن القضائي عليها. وقد مكّن ذلك الإعلان مرسي وسلطته وجماعته من فرض دستور مرفوض من بعض أهم مكونات المجتمع وقواه السياسية، والانطلاق في عملية متكاملة للاستحواذ على أجهزة الدولة أو «أخونتها» بمعدلات شديدة السرعة على نحو أثار قلقاً حتى في أوساط القوى السلفية الرئيسية التي عارضت تلك العملية، وفي مقدمتها «حزب النور». ولم تكن عملية الهيمنة أو «الأخونة» هذه من أجل إحكام سيطرة مرسي وحكومته وجماعته على السلطة خلال فترة رئاسته وحتى موعد الانتخابات التالية فقط، ولكن لضمان استمرار هذه السيطرة إلى أجل غير مسمى، وربما إلى الأبد. وقد رفض قادة «الإخوان» كل النصائح التي قدمت إليهم من أطراف عدة، وتعاملوا مع الناصحين على اختلاف مشاربهم باستعلاء شديد إلى حد أن بعضهم أنكروا وجود أي غضب شعبي عندما نصحت قيادة الجيش جماعتهم والرئيس السابق التابع لها بالانتباه إلى تصاعد هذا الغضب ومعالجة أسبابه، وقالوا للفريق أول السيسي صراحة إنهم مؤهلون لحكم مصر خمسمائة سنة. وكان هذا تعبيراً عن إصرار على عدم التخلي عن السلطة أبداً. فقد أعطوا أولوية قصوى في عملية الاستحواذ أو «الأخونة» لضمان الهيمنة الكاملة على المؤسسات والأجهزة المؤثرة في العملية الانتخابية، والتي يؤدي امتلاكها إلى التحكم في نتائج هذه العملية على النحو الذي عرفته مصر لعقود طويلة منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى عام 2011. وتشمل هذه المؤسسات والأجهزة وزارات عدة تقوم بدور جوهري في الانتخابات، خاصة وزارة التنمية المحلية ووزارة القوى العاملة ووزارة التموين ووزارة الزراعة ووزارة التأمينات الاجتماعية، فضلاً عن وزارة الداخلية بطبيعة الحال. وهناك أيضاً الأجهزة المحلية التي تدير حياة الناس اليومية وتؤثر فيها أشد التأثير، خاصة المحافظات التي التهمت جماعة «الإخوان» معظمها حيث وصل عدد المحافظين الذين كانوا ينتمون إليها في مايو 2013 إلى 17 محافظاً، أي ضعف أقصى ما حصل عليه الحزب الحاكم الأسبق في عهد مبارك (الحزب الوطني). وتتضمن المحليات أيضاً الأجهزة اللصيقة بالمواطنين والأشد تأثيراً عليهم مثل مجالس المدن والأحياء والقرى التي استولت جماعة «الإخوان» عليها سواء بشكل مباشر أو عن طريق ضمان ولاء رؤساء سابقين لهذه الأجهزة في إطار ظاهرة "التأخون" التي كانت وجهاً ثانياً لعملية «الأخونة». وقد أدت تلك الهيمنة على المؤسسات والأجهزة المؤثرة على العملية الانتخابية إلى امتلاك جماعة «الإخوان» القدرة على تحديد نتائج الانتخابات البرلمانية التي حاولت التعجيل بها وأخذ معارضيها على غرة عندما أصدر الرئيس السابق في مارس الماضي قراراً بفتح باب الترشح لها، قبل أن تقضي محكمة القضاء الإداري بوقف تنفيذ هذا القرار قبل اتخاذ الإجراءات الخاصة بتنفيذه. ولذلك أعلنت الأحزاب والقوى الديمقراطية التي قادت المعارضة في تلك المرحلة، من خلال جبهة الإنقاذ الوطني، رفضها المشاركة في تلك الانتخابات ومقاطعتها، وأكدت أن نتائجها محددة سلفاً بسبب هيمنة سلطة جماعة «الإخوان» على الأجهزة والمؤسسات التي تستطيع توفير الظروف اللازمة للتحكم في مسارها عبر السيطرة على إرادة معظم الناخبين أو مصالحهم أو رزقهم وقوت يومهم، وإضافة إلى ذلك كله، كانت الجماعة قد أعدت عدتها لشراء الأصوات الانتخابية ليس باستخدام مواردها والدعم الكبير الذي تلقته من التنظيم الدولي فقط، ولكن بتوظيف إمكانات الدولة من خلال الحكومة التابعة لها أيضاً. وهذا هو ما كان وزير التموين المنتمي إلى «الإخوان» قد بدأ فيه مبكراً جداً من خلال استغلال السلطة الكبيرة التي تتمتع بها هذه الوزارة في توزيع السلع الأساسية. فما أن أعلن مرسي فتح باب الترشح للانتخابات النيابية في مارس الماضي حتى صارت مقرات الجماعة وحزبها في كثير من المناطق الفقيرة مراكز لتوزيع سلع غذائية بأقل من سعرها. ولذلك ظل مرسي مُصراً بشدة على عدم تغيير الحكومة التابعة لجماعته، على رغم أن مطلب تشكيل حكومة محايدة تضم وزراء فنيين (تكنوقراط) لم يقتصر على قوى المعارضة الديمقراطية، حيث انضمت إليها بعض فصائل ما يُطلق عليه «الإسلام السياسي» وفي مقدمتها «حزب النور»، بل لم تستطع أحزاب رديفه لـ«الإخوان» رفضه. ولضمان السيطرة الكاملة على العملية الانتخابية، رفض مرسي تعيين نائب عام مستقل يرشحه المجلس الأعلى للقضاء بدلاً من ذلك الذي اختاره هو بقرار رئاسي مستغلاً الصلاحيات التي منحها لنفسه بموجب ما أسماه «إعلاناً دستورياً» في نوفمبر 2012، لكي لا تقوم النيابة العامة بدورها في التحقيق في الانتهاكات التي كانت جماعته تخطط للتحكم من خلالها في نتائج الانتخابات. وقل مثل ذلك عن قانون الانتخابات الذي انفردت جماعة «الإخوان» بوضعه على مقاسها وبما يضمن لها أغلبية مريحة في البرلمان القادم. وكان متوقعاً أن تُجرى الانتخابات الرئاسية بطريقة مشابهة، ومن خلال هيمنة كاملة لجماعة «الإخوان» على إجراءاتها بما يضع البنية الأساسية لاستمرار سيطرة هذه الجماعة على السلطة والدولة والمجتمع إلى أجل غير مسمى، سواء لخمسمائة عام أو أكثر أو أقل. ولكن عناية الله وإرادة الشعب أنقذتا مصر بأسرع مما توقعه أحد.