تردّدت أسباب كثيرة في معرض تفسير سياسة أوباما وإحجامها، حتى الآن، عن التدخل في سوريا. أمّا الأسباب التي تتصل بالإدارة الأميركية نفسها، والتي ذهبت الآن أدراج الرياح، فأهمّها التالي: أولاً، أن أوباما، بل الأوبامية كظاهرة، إنما صعدت في عالم السياسة الأميركية والدولية بوصفها النقيض لسياسة بوش التدخلية. ولهذا سيكون من الصعب على أوباما أن يكرّر السياسة التي انتقدها بحدّة في إدارة سلفه. ثانياً، أن التجارب التدخلية الكبرى للولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق لم تؤد إلى نتائج إيجابية تعادل أكلافها. ففي أفغانستان نمت وتنمو حركة «طالبان» وأصبحت طرفاً لابد من الحوار معه لبناء بلد مستقر. أما في العراق الذي لا يزال بعيداً جداً عن الاستقرار، فكانت إيران الطرف الذي استفاد قبل أي طرف آخر من الحرب الأميركية التي أطاحت نظامه السابق. وهذه الخلاصة تتغذى على خلفية معروفة في الفكر والحساسيتين الديمقراطيتين في أميركا، حيث تكمن هزيمة فيتنام بوصفها البرهان الذي لا يُدحض على عدم جدوى التدخلات الخارجية. ثالثاً، أن الأصوليين «الجهاديين» والتكفيريين هم الطرف المؤهل للحلول محل النظام الأسدي القائم في حال سقوطه. والولايات المتحدة بسياسييها وبرأيها العام لن يجدوا ما يثير شهيتهم لدعم عدو وصلت به العداوة إلى ارتكاب جريمة 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن. رابعاً، أن التدخل في سوريا قد يضع الولايات المتحدة في مواجهة مفتوحة إقليمياً مع إيران، ودولياً مع روسيا. ومعروف أن أوباما يتبع في السياسة الخارجية نهجاً يسعى إلى التوافق وتذليل التناقضات من خلال القنوات السياسية والديبلوماسية. خامساً، أن مصلحة إسرائيل لا تكمن في إطاحة نظام الأسد، إذ أن خصومه قد يكونون أشد منه عداء لها، فضلاً عن أن المعارضة السورية لم تقل شيئاً واضحاً حتى الآن عن مستقبل العلاقات السورية- الإسرائيلية بعد رحيل الأسد. وفي هذه الحال من إجماع الطرفين المتصارعين على العداء لإسرائيل، تكمن مصلحة الأخيرة في خراب سوريا أكثر مما في الانحياز لجهة معينة أو طرح معين. سادساً، أن الغرب، بما فيه الولايات المتحدة، يمرّ في أسوأ أوضاعه الاقتصادية والمالية منذ أزمة 1929، وهذا لا يشجع على تكبّد المزيد من الإنفاق العسكري. صحيح أن هناك علامات متكاثرة على الانتقال المتعرّج والبطيء إلى التعافي. إلا أن تلك الإشارات لا يزال معظمها هشاً وغير كافٍ للتعويل عليه. سابعاً، أن الوجهة الأميركية الجديدة، اقتصادياً وبالتالي سياسياً، متجهة نحو آسيا والمحيط الهادئ في ظل تراجع الاهتمام بالشرق الأوسط. في مقابل هذه الحجج، تقف الحجج الداعمة للتدخل، والتي تغلبت، وأهمها: أولاً، لا يمكن للغرب، لاسيما بعد ضرب غوطتي دمشق بالسلاح الكيماويّ وقتل نسبة معتبرة من الأطفال، أن يبقى مكتوف اليدين. فالمضيّ في الصمت والإدانة اللفظيّة لا يجعل خطوط أوباما «الحمراء» مهزلة فحسب، بل يجعل كل المزاعم الإنسانية والأخلاقية للحكومات الغربية مهزلة. فإذا جاز انتقاد بوش لأنه تدخل في العراق من دون دليل، فهذا لا يعني رفض التدخل في ظل توفر الدليل، على ما هي الحال في سوريا. وباختصار، فالعزوف عن التدخل يحرم الغربيين تلك المنصة الأخلاقية التي يزعمون الوقوف فوقها والنطق باسمها في شؤون العالم. ثانياً، تؤول المساهمة في إسقاط النظام السوري إلى ضرب جسر العبور الإيرانيّ إلى المشرق العربيّ. ويجب ألا يغيب عن البال راهناً، وفي معزل عن «الاعتدال» المنسوب إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني، أن إيران هي اليوم العدو الأول للولايات المتحدة وعموم البلدان الغربية. ثالثاً، يوفر التدخل في سوريا مصداقية للولايات المتحدة في سعيها إلى كبح النفوذ الروسي على النطاقين الإقليمي والدولي. إن حاكماً كفلاديمير بوتين لا يفهم إلا لغة الحزم وتوازن القوى الصارم، وكل ظهور بمظهر الضعف أمامه هو قوّة لموسكو تحسم من رصيد واشنطن. رابعاً، يتأدّى عن التدخل في سوريا وقف وجهة التعفن التي تشق طريقها بهمة ونشاط في عموم الشرق الأوسط. ويستطيع المراقب أن يلاحظ تلك العلاقة الشفافة بين نمو القوى التكفيرية في سوريا وبين سياسة التخلي وإدارة الظهر الغربية. والحال أن حضوراً غربياً كثيفاً يضع حداً للنظام الأسدي هو ما يحاصر الظواهر المماثلة، لا في سوريا فحسب، بل أيضاً في لبنان والأردن والعراق. خامساً، يترتب على الدور المباشر في سوريا تعزيز لقدرة الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبيات على التأثير في مستقبل السلام العربي- الإسرائيلي. وإذا كانت واشنطن جادة في تحريك عملية السلام، فإن حضورها، على نحو أو آخر، في سوريا، يقوّي اهتمامها بسلام المنطقة وقدرتها على إحلاله. فإذا أضفنا أن تحولاً كهذا يحاصر «حزب الله» اللبناني ونفوذه، زادت عناصر الرهان على احتمال كهذا. سادساً، لا يمكن للغرب الأوروبي والأميركي أن يفقد تأثيره طوعياً في منطقة بالغة الحساسية تبعاً لقربها من حقول النفط ومن بعض طرق إمداده. إن سلوكاً انكفائياً كهذا لن يرتب إلا المزيد من التجرؤ على الوضع القائم بما يوسّع بيكار الفوضى التي يستحيل حصرها أو السيطرة عليها. سابعاً، سيوفر النفوذ الأميركي في سوريا فرصة للتأثير في سائر العلاقات المعقدة بين الجماعات الطائفية والمذهبية والإثنية في منطقة المشرق، خصوصاً مع تفاقم التنازع السني- الشيعي، وتفجّر المشكلة الكردية العابرة للحدود الوطنية، ناهيك عن تزايد التقديرات حول احتمال بناء نظم فيدرالية بديلة أو التوصل إلى رسم خرائط قد تغاير الخرائط الراهنة. أي رزمة من الحجج ستنتصر في النهاية؟ الجواب عن هذا السؤال بات واضحاً، ومفاد ذلك أنّ بشّار الأسد ونظامه «نجحا» في إحداث تحوّل قد يكون عميقاً داخل الأوباميّة نفسها. وفي الحالات جميعاً سنعيش قريباً أياماً مشوّقة وخطيرة في وقت واحد!