يكتسي مفهوم الديمقراطية في عصرنا الراهن شعبية وجاذبية استثنائية جعلت مختلف القوى السياسية من مختلف المدارس والمشارب والاتجاهات، وفي جميع أنحاء المعمورة تقريباً، تدعي وصلاً به، وترفع لافتات السعي لتحقيقه، أو حتى إنجاز هذا التحقيق. وفي هذا التعطش والتعلق شبه الموضوي المعاصر بالديمقراطية كمفهوم وكممارسة قليلون هم يسائلون مفهوم الديمقراطية نفسه للوقوف على معناه ومبناه، وأقل من ذلك بكثير من يحفرون في ذكريات هذا المفهوم لمعرفة الكيفية التي تشكل بها أصلاً، وطريقة التمثل والاستبطان التي ترسخ بها في بعض أكثر المجتمعات الراهنة ارتباطاً بالنظام الديمقراطي، مثل الحالتين الفرنسية والأميركية، خلال فترة المائتي سنة الماضية، أي منذ اندلاع الثورتين الشهيرتين، الفرنسية والأميركية. وفي سياق هذا التتبع التاريخي والمفهومي لمعنى الديمقراطية، وبداية تمثلاته الحديثة والمعاصرة، يأتي كتاب المؤلف «فرانسيس ديبوي- ديري» المعنون «الديمقراطية: التاريخ السياسي للكلمة في الولايات المتحدة»، الذي نشير هنا بشكل خاطف إلى بعض ما ورد فيه من أفكار. ويستعرض الكاتب بين دفتي عمله الواقع في 446 صفحة مختلف التمثلات والمعاني التي كان الآباء المؤسسون لهذا المفهوم في نهاية القرن الثامن عشر يستبطنونها في سعيهم للتجديد السياسي للمجتمعين الأميركي والفرنسي اللذين كانا حينها يمران بمخاضات تحول وتجديد سياسي عسير، عقب ثورتين بالغتي الطموح وإن كانتا أيضاً محكومتين بظروفهما الموضوعية والتاريخية المعقدة. وفي هذا السياق يُبرز الكاتب أن مفهوم الديمقراطية كان حينها مفهوماً غائماً وإن كان واقعياً، وخلواً من كثير مما يحيط به الآن من هالات رومانسية وإيديولوجية غير معقولة. ففي كثير مما صدر حينها من خطب وبيانات سياسية وسجالية نجد أن همَّ المفكرين والمنظرين السياسيين والمشرعين، بعيد الثورتين الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، كان البحث عن آلية تنظيم سياسي تدريجي للمجتمع تسمح بأكبر قدر ممكن من التمثيل الشعبي، بما يتواءم والمعنى الكلاسيكي لعبارة الديمقراطية نفسها من حيث هي «حكم الشعب». وضمن التعريفات التي كانت سارية حينها لمفهوم الديمقراطية اشتهرت بأنها فن تحصيل إعجاب، وغواية، الجماهير، عن طريق الخطاب السياسي. وقد نظر كثير من ساسة ذلك الزمن إلى الديمقراطية في سياقها الخطابي هذا تحديداً، ولذلك لطالما انتقدت بأنها مطية مطواع لكافة أنواع الديماغوجيات، حيث يستطيع بعض المتحدثين المهرة الاستحواذ من خلالها على ألباب المتلقين من الجمهور العريض، ومن ثم تسويق وتسويغ الأوهام والأحلام الزائفة للعامة بغية تحقيق غايات سياسية رديئة. بل إن منشوراً سياسياً ظهر في مدينة بوسطن الأميركية سنة 1798 عرّف الديمقراطية باعتبارها طريقة «لإبهار الجهلاء من خلال الكلمة الحرة»! هذا في الحالة الأميركية، أما في الحالة الفرنسية فقد كان المفهوم نفسه غائباً تماماً ولم ينطق به أحد، ولو مرة واحدة، خلال سجالات سنة الثورة 1789 كما يكشف ذلك المؤلف «بيير روزانفالون» في كتابه «الديمقراطية الناقصة». بل قادة الرأي وصناع القرار بعيد انتصار الثورة الفرنسية مثل روبسبيير كانوا يتحدثون تحديداً عن ضرورة إيجاد نظام سياسي قائم على «الأرستقراطية التمثيلية»، ليكون هو النظام الفرنسي السائد بعد نجاح الثورة، كما نصح «ميرابو» الخطيب والسياسي الشهير أيضاً بالابتعاد عن أي نظام سياسي «مخيف» أو مفارق للواقع، ولذلك تم تفادي أية إشارة إلى مفهوم الديمقراطية كما نفهمه الآن، وكذلك وقع تجنب مفهوم حكم الشعب بذات المعنى الذي كان يستخدمه اليونان القدامى. ويشير الكاتب أيضاً إلى أن مفهوم الديمقراطية والتجديد السياسي بعيد الثورتين كان الساسة والمنظرون ينطلقون في فهمهما من فلسفات كلاسيكية غربية قديمة مثل أعمال المؤرخين توكيديدس وبلوتارك، وفلسفات أفلاطون وأرسطو وشيشرون، وهي في معظمها أعمال تنظر إلى الديمقراطية باعتبارها نظاماً سياسياً ضعيفاً، يحكم فيه الشعب الذي هو في غالبيته غير عقلاني وغير كفؤ للبت في القضايا العامة، ويسهل تضليله من قبل الديماغوجيين وأصحاب الدعاوى والدعايات الفجة، غير القابلة للتحقيق والتنفيذ. وقد استمرت هذه الصورة السلبية جداً عن مفهوم الديمقراطية في البلدين المذكورين ولم تكتسِ أية صبغة أو صفة إيجابية في التداول السياسي والخطابي حتى منصف القرن التاسع عشر، حين بدأ بعض الصور النمطية السلبية يخلي مكانه لتصورات أقل سلبية وهجائية للنظام الديمقراطي كفكرة نظرية وكممارسة سياسية. حسن ولد المختار ------- الكتاب: الديمقراطية: التاريخ السياسي للكلمة المؤلف: فرانسيس ديبوي- ديري الناشر: هيمانيتي تاريخ النشر: 2013