يواجه العالم الإسلامي ظاهرتين سلبيتين وشديدتي الخطورة. الظاهرة الأولى هي التوتر المذهبي بين السنة والشيعة. والظاهرة الثانية هي التوتر الفكري -الاجتهادي- حول الدين والدولة. والظاهرتان كانتا معاً حاضرتين في المؤتمر السادس عشر لأكاديمية آل البيت الملكية الأردنية الذي عقد في عمان تحت عنوان «مشروع دولة إسلامية مدنية قابلة للاستمرار ومستدامة». ويمكن تلخيص نتائج المؤتمر الذي حضره أكثر من مئة عالم دين ومفكر إسلامي سني وشيعي ومن مختلف الدول الإسلامية -وغير الإسلامية- بعبارة واحدة، في أن الدولة المدنية هي النموذج الأنسب للدولة الإسلامية. ولكن كيف تكون الدولة مدنية وإسلامية في وقت واحد؟ استهل المؤتمر الأمير غازي بن محمد مندوباً عن الملك عبدالله الثاني بطرح أسئلة شكلت تحدياً للعلماء المجتمعين بما اتسمت به من جرأة. فقد اعترف بأننا «نحن المسلمين منقسمون بين أنفسنا حتى لجأنا في بعض الدول إلى القمع؛ وأحياناً إلى العنف؛ وأحياناً -وأقولها مع الحزن الشديد- إلى سفك الدماء، كما نرى هذه الأيام؛ وأحياناً إلى الخلع؛ وأحياناً إلى الخروج المسلح من دون الكفر البواح؛ وأحياناً إلى الصراع المذهبي في الدين الواحد؛ وكل هذا من غير أن يعرف أكثرنا الفرق بينهم، إلى أن وصلنا إلى الفتنة العمياء الصماء. ويبدو لي أن هناك تقصيراً في شرح الفرق بين إبداء الرأي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلمة الحق أمام سلطان جائر -وهو جائز بل واجب في كل حال- وكلمة حق يراد بها باطل والاستدراج تحت شعار الحرية والديمقراطية التي تؤدي إلى الغوغائية والفوضى والفتن العمياء الصماء. فأصبحنا نستعمل ما يناسبنا من الدين لكي نبرر أفكارنا ومآربنا وما ننحاز إليه دون أن نتطلع إلى نصوص وحكم القرآن والسنة والحكمة المنبثقة منهما بتجرد وموضوعية، مستذكرين قول الله تعالى : "بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره" (سورة القيامة – 75 : 14-15)». ثم تساءل الأمير غازي «هل إن للدولة الحديثة نفس مفهوم الدولة في التاريخ الإسلامي أو في الشريعة؟ هل لها نفس السلطات نحو الفرد في الفكر الإسلامي أو حتى في الفكر الليبرالي الحديث؟». وطرح الأمير قضية الديمقراطية، فقال: «قد سمعنا البعض يقول إن الديمقراطية والإسلام هما نفس الشيء، أو أنهما منسجمان، أو أنهما يؤكدان على نفس المبادئ والغايات. وقد سمعنا البعض الآخر ينكر ذلك تماماً، ويحرّم الديمقراطية ويعتبرها بدعة غربية. وهناك أيضاً من لا يؤمن بالديمقراطية ولكنه مستعد لأن يساير الفكرة مؤقتاً لكي يصل إلى السلطة، ثم يمارس في سلطته أسلوباً غير ديمقراطي يتخلص من الديمقراطية تماماً من خلالها، فتصبح الديمقراطية وسيلة وليست غاية، وسلاحاً وليست سلماً، وقمعاً وليست حرية». وتساءل: «في الحكم الإسلامي هل الشريعة مصدر السلطات، أو الشعب، أو دستور ما، أو الإجماع؟ وهل حقوق الإنسان في المفهوم الديمقراطي تتناسب مع حقوق الناس ومقاصد الشريعة في الإسلام؟ وماذا عن حقوق التعبير (ومنها في الديمقراطية «حق» إهانة شعائر الله تعالى) وحقوق الحرية الجنسية، إن كانتا نفس الشيء، على سبيل المثال..؟». ومن خلال ذلك طرح الأمير الموضوع المطروح بحدة في الوقت الحاضر في العالم العربي إثر حركات ما يسمى بـ«الربيع العربي». واستشهد بعدد من آيات القرآن الكريم، منها قوله تعالى «وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين». وكذلك «وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون». لقد قدم رجال الدين السنة والشيعة والعلماء من المذهبين دراسات مفصلة حول هذه القضية وما تحمله من تحديات. وأجمعوا في نهاية الأيام الثلاثة من البحث والنقاش على أن «النموذج الأنسب للدولة الإسلامية القابلة للاستمرار والاستدامة هو الدولة المدنية التي يحكم فيها المؤتمنون من أهل الاختصاص كل في مجاله، وذلك بالاعتماد على الدستور المبني على أساس احترام القانون وعلى المساواة بين جميع المواطنين من كافة الأطياف العرقية والدينية، بما لا ينافي المبادئ العامة للدين الإسلامي الحنيف». واتفقوا أيضاً على أن «وظيفة الدولة الحديثة تتمثل في ممارستها لسلطاتها المشروعة القائمة على الشورى لا الاستبداد لأن الدولة يجب أن تكون في خدمة المجتمع، والعدالة بين الجميع دون تمييز، وتنظيم ممارسة الحريات، والحفاظ على دور العبادة وحمايتها لجميع الأديان، والسعي لإسعاد رعاياها وتوفير العمل لهم وحفظ كرامتهم». وفي موضوع المذهبية اتفقوا على أن «التعددية المذهبية اختيار يجمع ولا يفرّق، وهي في عمومها رحمة لأنها تقدم حلولاً متنوعة لمشكلات الأمة. ويمكن الاستفادة من كل الآراء والاجتهادات الفقهية. وبذلك تكون أرحب في نظرتها. ولذا رفض المؤتمرون استخدام الصراع الطائفي والتحريض عليه في حل المشكلات التي تعرض داخل الدولة. وأكدوا على حرية الرأي والمعتقد وحرمة دم الإنسان ورفض التوجه التكفيري واستعماله في الصراع السياسي، وأن توضع القوانين الصارمة بهذا الشأن، وتفعّل». ورفضوا «استخدام الصراع الطائفي والحض عليه في حل المشاكل التي تعرض داخل الدولة، حتى ولو كانت هذه الصراعات ناشئة عن إخلال بالعقد الاجتماعي، وأن توضع القوانين الصارمة المانعة لذلك، وألا تحل المشاكل إلا بوسائل السلم والحوار والتفاهم». وأجمع العلماء «على نبذ العنف أياً كان مستخدمه وأياً كانت أسبابه، وأن تُحترم إرادة الشعوب في التعبير عن آرائها وأفكارها ضمن القوانين والقيم والمعايير المتبعة». وقدّروا عالياً «دور الأزهر الشريف في حرصه على السلم والأمن الداخلي والخارجي». كما قدّروا «وثائقه المتعددة التي تهدف إلى حقن الدماء والحرص على المصالحة الوطنية». لقد كان من أهم ما أسفر عنه اللقاء العلمائي الإسلامي (السني-الشيعي) الإجماع على مبدأ أن «لا دولة دينية في الإسلام» يتولى فيها رجال الدين بصفتهم رجال دين، الحكم باسم الله أو نيابة عنه. ومن أهم ما أسفر عنه أيضاً إدانة الإرهاب بكل أشكاله، ورفض العنف في التعامل مع الاختلاف والانفتاح على تجارب الآخرين والإفادة منها. واحترام إرادة الناس في التعبير عن آرائها وأفكارها، والتأكيد على روح الوحدة بين مكونات المجتمع كافة. ومن هنا يشكل هذا المؤتمر العلمائي في تنوعه وفي نتائجه قوة دفع تتصدى فقهياً وفكرياً لموجة التطرف والغلو التي تجتاح العالم العربي.