في حكاية تراثية أن لصاً تعلق بحديدة نافذة دار بقصد تسوّرها والنفاذ منها إلى الداخل وسرقة محتويات الدار، لكن الحديدة انقلعت من مكانها وهوى اللص إلى الأرض وكسرت رجله. أُدخل اللص إلى «البيمارستان» لعلاجه، وأخذوا صاحب الدار إلى القاضي الذي سأله عن الحديدة التي تسببت في الأذى الذي تعرض له اللص، فدافع صاحب الدار عن نفسه بالقول إن البنّاء هو المسؤول، فأحضروا البنّاء الذي ألقى باللائمة على الحدّاد، لأنه هو الذي تولى تركيب النافذة. فقال الحدّاد إن امرأة مرّت إلى جانبه أثناء عمله وهي ترتدي ثياباً زاهية الألوان فشتتت انتباهه، فأحضروا بائع الثياب الذي بدوره أرشد إلى الصبّاغ... وهكذا انتقلت مسؤولية الأذى الذي تعرض له اللص -أثناء محاولته السرقة- من شخص إلى آخر، إلى أن قبضوا على رجل في مدينة بعيدة وزجّوا به في السجن. ويبدو أن «الربيع العربي» سينتهي بالطريقة الدراماتيكية التي انتهت إليها قصة ذلك اللص، فبدلاً من توجيه أصابع الاتهام إلى من خلقوا أجواء الشتاء القاسية التي لابد أن تنتهي بقدوم الربيع، أو حتى لوم من أفسدوا جمال الربيع باقتطاف ثماره قبل أن تنضج، أصبحنا نتحدث عن وجود مؤامرة لرسم خارطة جديدة للمنطقة تحت لافتة «الربيع العربي»، وعن إحداث فوضى خلاقة باسم الكرامة والحرية، وبقية الكلام الذي لا طعم له. وقد تكون هناك فعلاً مؤامرة دولية، وقد تكون هناك خطة لتفتيت دول المنطقة وإشعال الحروب فيها، وقد تكون هناك منظمات مشبوهة درّبت الشباب على أساليب التغيير والاحتجاج، مثلما قد يكون الحدّاد متعمداً تركيب حديدة النافذة بطريقة غير مُحكمة، ومثلما قد يكون مرور المرأة مقصوداً منه تشتيت انتباه الحدّاد، فكل هذا لا علاقة له بأصل القضية، وهو أن سارقاً حاول السرقة، وأنه كسر رجله بيده، وأنه هو الذي يجب أن يقف بين يدي القاضي. لم ينزل الملايين في بلدان «الربيع العربي» مطالبين بأن تتحول بلادهم إلى سويسرا، وإنما بألا تصبح حياتهم جحيماً لا يطاق، وبأن يعاملوا كشعب لا كأفراد تصادف وجودهم في مكان قرر هذا النظام أو ذاك أن يحكم فيه. لم تنزل تلك الملايين لتنفذ مؤامرة ضد أوطانها، حتى لو كانت هناك جهات قررت أن تستغل ما يحدث، وإنما نزلت بعد أن استبدّ بها اليأس من إصلاح أوضاعها، وفقدت الأمل في المستقبل، وتوصلت إلى قناعة بأن بث الهموم إلى «الكنبة» لن ينهي حالة الاستبداد والاستئثار بالسلطة وبالثروة واستشراء الفساد والحرمان والتهميش والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية. وبدلاً من أن نلوم من تسبّب فشله في الحكم في حدوث «الربيع» في بلاده، أصبحنا نلوم من ثار على ذلك الفشل، وبدلا من أن نأخذ العبرة من أجواء ما قبل «الربيع» ونمعن النظر في الأسباب التي أدّت إليه، أصبحنا نأخذ العبرة من أجواء ما بعد «الربيع» والنتائج التي انتهت إليه. الكلام عن وجود مؤامرة دولية لتفتيت الدول العربية، وعن سيناريوهات وُضعت في الغرف المغلقة لإغراق المنطقة في الفوضى، وعن الشرق الأوسط الجديد، هذا الكلام حتى لو كان حقيقياً، فإنه يشبه الكلام عن الحدّاد الذي لم يتقن عمله، لأن بائع الثياب باع ثوباً زاهياً لامرأة مرّت إلى جانبه وهو يركب الحديدة التي تعلَّق بها اللص.