أحيت مؤخراً العديد من الجهات الحكومية، والمنظمات الدولية الخيرية، ذكرى اليوم العالمي للأعمال الإنسانية (World Humanitarian Day)، والذي يحل كل عام في التاسع عشر من شهر أغسطس. وتكرس فعاليات هذا اليوم لتثمين جهود العاملين في المنظمات الإنسانية حالياً، وأيضاً لمن فقدوا حياتهم أثناء تأدية واجبهم في إنقاذ ومساعدة الآخرين. وقد تم تخصيص هذا اليوم من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، كجزء من مشروع قرار مقدم من الحكومة السويدية حينها، يهدف إلى دعم وتشجيع التعاون والتنسيق للجهود الرامية لمساعدة المحتاجين والمتضررين في أوقات الكوارث والأزمات. ويتزامن تاريخ الاحتفال السنوي بهذا اليوم، التاسع عشر من أغسطس، مع ذكرى تفجير انتحاري لسيارة نقل محملة بالمتفجرات، وبقنبلة زنة 500 رطل، في عام 2003، دمرت المقر الرئيسي للأمم المتحدة في فندق القناة بالعاصمة العراقية بغداد، وتسببت في مقتل الممثل الخاص لسكرتير عام الأمم المتحدة في العراق حينها، البرازيلي "سيرجيو دي ميلو"، مع 21 من زملائه. وتتعدد المرادفات التي يمكن أن توصف بها الأعمال الإنسانية، مثل الكرم، والعطف، والإحسان، والمعروف، حيث تعرّف الأعمال الإنسانية في مفهومها العام، على أنها الأخلاق أو المبادئ، الداعية لمساعدة الآخرين في وقت الحاجة، وفي زمن الكوارث والأزمات. ولا خلاف على أن هذا المفهوم قد شهد تطوراً تاريخياً في معناه ومغزاه، وإنْ كانت العمومية أو الشمولية، دائماً ما شكلت مكوناً أساسياً ومحورياً من مكوناته. بمعنى أن الأعمال الإنسانية في جوهرها، لا تأخذ في الاعتبار، أو تفرّق في وقت المساعدة على مواجهة المعاناة، على أساس الجنس، أو السن، أو الديانة، أو العرق، أو القبيلة، أو الجنسية، أو الطبقة الاجتماعية. وهو ما يجعل القائمين على الأعمال الإنسانية دائما محايدين، ومجردين، في تقبلهم للآخر، ومد يد المساعدة له، بناء فقط على كونه إنسانا، متجاهلين ومبطلين للنظرة الاجتماعية السلبية أياً كانت، وللأحكام المسبقة، وللتعصب، والتحامل، والإجحاف، والعنصرية بجميع أشكالها. ومن الصعب حصر المواقف والمجالات التي تنشط أو توجه لها الأعمال الإنسانية، وإنْ كان من أهمها وأبرزها في الوقت الحالي مد يد المساعدة في أوقات الأزمات والكوارث التي تصيب الشعوب والمجتمعات، نتيجة الحروب والصراعات المسلحة، أو الكوارث الطبيعية، كالفيضانات، وفترات القحط والجفاف، والزلازل، وغيرهم. ورغم أن الكوارث الطبيعية، تعرف على أنها أحداث طبيعية ذات تبعات كارثية على المجتمعات البشرية الواقعة بالقرب من مكان حدوثها، فإن الجميع أصبحوا يدركون أن فداحة الثمن الإنساني الناتج من تلك الكوارث، يتوقف على العديد من العوامل غير الطبيعية، مثل درجة استعداد المجتمع البشري الواقع في زمامها. هذا المفهوم تعبر عنه بدقة، المقولة الشهيرة بأن "الكوارث تنتج عندما يلتقي الخطر بالضعف". وما تعنيه هذه المقولة أن التعرض للمخاطر في حد ذاته، لا يعني بالضرورة التعرض للأذى أو للكارثة. بينما يحدث الأذى وتنتج الكارثة دائماً، عندما ينصب جام الخطر على الأشخاص والمجتمعات القاطنة في كنف الضعف والهوان. وتحدث الطامة الكبرى، أو كارثة الكوارث، عندما تتحالف الكوارث الطبيعية مع الأوبئة المرضية، ليشكلا ما يعرف بوفيات ما بعد الكارثة، التي لا تنتج عن الكارثة مباشرة، ولكن من التبعات التي تليها. ورغم أن هذه التبعات تختلف أشكالها، وتتنوع أساليبها في التسبب في المزيد من الوفيات، فإن انتشار الأمراض المعدية هو أكثر أساليبها وطأة، وأشد أسلحتها فتكا. وبخلاف الأمراض العضوية، وخصوصاً الأمراض المعدية، التي تتبع أو تنتج من الأزمات والكوارث، تزايد مؤخراً اهتمام المجتمع الطبي بالتبعات النفسية والعقلية الناتجة عن الأزمات والكوارث. فرغم أن هذه الفترات العصيبة من حياة الأفراد والمجتمعات تتسم بطبيعة مأساوية، على صعيد عدد القتلى والضحايا والمصابين، فإنها تترك أيضا آثاراً سلبية طويل المدى على الحالة النفسية والعقلية للناجين والمصابين على حد سواء. وهو ما يجعل من الضروري للجهود والأعمال الإنسانية الموجهة للمجتمعات المنكوبة، وبخلاف توفير الحاجات الضرورية الأساسية من مأكل، وملبس، ومأوى، وعلاج، أن تضع في اعتبارها ضرورة توفير جزء من المصادر المتاحة لمواجهة التبعات النفسية والعقلية للكارثة التي أصابت تلك المجتمعات. وللأسف، يتواجد حالياً في الشرق الأوسط، وبعض المناطق القريبة والمحيطة، عدد من الدول والمجتمعات، التي تعرض لنكبات شديدة، بسبب الصراعات السياسية التي تحولت في الكثير من الأحوال إلى صراعات مسلحة دموية. ورغم أن جهوداً إنسانية حثيثة تبذل في مد يد المساعدة لتلك الدول والمجتمعات، فإنه يجب أن يوضع في الاعتبار أن تلك المجتمعات، ومن يعيش فيها من أفراد، سيحتاجون لاستمرار الأعمال الإنسانية بعد أن يهدأ وطيس الصراع المسلح، بغرض محو الآثار النفسية والعقلية الناتجة عن الصراع. وخصوصاً بين الأطفال، الذين ربما قد شوهت نفسياتهم، وعموم نظرتهم للحياة، وللمجتمع، وللإنسانية بوجه عام، بدرجة ستترك ندبا عميقة بداخلهم، قد تستغرق سنوات وعقوداً حتى تنمحي أثارها. د.أكمل عبدالحكيم