انشغلت منذ التسعينيات بالدراسة المنهجية للتغيرات التي لحقت بالعالم نتيجة عوامل شتى، واكتشفت مبكراً ثلاثة مفاهيم رئيسية هي تدفق موجات الديموقراطية في مواجهة النظم الشمولية والسلطوية، مما يجعل زوالها حتمية تاريخية سواء بحكم عملية الإصلاح الديموقراطي أو بالثورة، والانتقال من القيم المادية التي تركز على عوامل البقاء إلى القيم ما بعد المادية، لكي تركز على الجوانب الروحية والمعنوية للإنسان، بما في ذلك الإحياء الديني والاعتداد بالكرامة الإنسانية، وأخيراً التحول من الحداثة -وهو المشروع الحضاري الأوروبي الذي كان وراء تقدم المجتمعات الغربية- إلى ما بعد الحداثة التي أصبحت فلسفة ظاهرة العولمة. ومن بين ما تعلمته من دروس نظرية قيمة، وأنا في غمار مرحلة البحث عن إطار نظري جديد يوجه دراساتي وأبحاثي في مجال العلم الاجتماعي وهو تخصصي الدقيق، اكتشفت سقوط مقولة شهيرة تبناها الفكر الغربي الحديث منذ كتاب الفيلسوف الشهير "ديكارت" "مقال في المنهج"، وهي أن لكل مشكلة حلا! بمعنى أنك لو طبقت قواعد التفكير المنطقية، التي أبدع "ديكارت" في شرحها، فلابد لك أن تصل لحل المشكلة التي تبحثها في أي ميدان. سقطت هذه المقولة - بحكم تعقد العالم المعاصر- وظهرت بدلاً منها مقولة جديدة قد تبعث على اليأس والقنوط، وهي أن هناك مشكلات لا حل لها! أبرز هذه المقولة المفكر الأميركي المعروف "جيرمي ريـفكن" الذي نشر عام 1996 عن دار نشر "بتنام" كتاباً ملفتاً بشدة للنظر عنوانه "نهاية العمل"، وله عنوان فرعي دال هو "انهيار قوة العمل على المستوى الكوني وبزوغ فجر مرحلة ما بعد السوق". لا أدري لماذا أدى التداعي الفكري- وأنا أفكر في إشكالية جماعة "الإخوان" في مصر بعد الموجة الثورية الثانية في 30 يونيو، وما ترتب عليها من دعم القوات المسلحة المصرية لهذه الانتفاضة الشعبية- إلى أنه يبدو أننا أمام مشكلة لا حل لها! والدليل على ذلك أن السوق السياسي- إنْ صح التعبير- يسيطر عليه في مواجهة مشكلة "الإخوان" حلاّن لا ثالث لهما. الأول يتمثل في اعتبارها مباراة صفرية zero Sum game والتي يمكن ترجمتها ببعض التصرف "إما نحن أو هم"! بعبارة أخرى "إما نحن" تعبر عن الملايين التي خرجت لإسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين، مما أدى إلى عزل مرسي من رئاسة الجمهورية أو "هم" التي تعني وجود جماعة الإخوان المسلمين في الحكم مرة ثانية. الحل الثاني يرفض توصيف المشكلة بأنها مباراة صفرية تقوم على الكسب المطلق أو الخسارة المطلقة، ويذهب إلى أن هناك مجالا للمبادرات السياسية التي تهدف إلى أن يتنازل كل فريق عن بعض مطالبه للوصول إلى حل للأزمة. وقد عبرت عن هذا الاتجاه المحاولة التي قام بها "سليم العوا" و"طارق البشري" وعدد آخر من النشطاء المناصرين للإخوان، وقدموا مبادرة تم رفضها على الفور، لأنها لم تكن حلاً، بل إنها زادت من حدة الأزمة! والمبادرة كانت تقول "يفرج عن مرسي ويعود إلى منصبه كرئيس للجمهورية ولكن منزوع الصلاحيات، وتتشكل وزارة ائتلافية تقوم بانتخابات رئاسية مبكرة"! هذه هي الخطوط العريضة لهذه المبادرة العبقرية التي ظن أصحابها أنهم يمكن لهم خداع ملايين المصريين الذين خرجوا في 30 يونيو بإغرائهم بانتخابات رئاسية مبكرة، وكأن هذا كان أساس التحرك الشعبي الهادر! لقد تجاهل هؤلاء -وجميعهم بالمناسبة شخصيات مرموقة- أن الشعب المصري خرج في غالبيته احتجاجاً على خلط الدين بالسياسة خلطاً معيباً، واعتبار قادة الجماعة، وفي مقدمتهم مرسي مصر وكأنها ضيعة خاصة ورثتها الجماعة ومن حقها أن تغير في أوضاعها وتبدل كما تريد. وأسوأ من ذلك اتجاه حكم "الإخوان" إلى هدم الأركان الأساسية للدولة، كما ثبت من تلاعبها باعتبارات الأمن القومي، وهذه هي قدس أقداس القوات المسلحة، ومحاولة نفاذها بكوادرها إلى أجهزة المخابرات والأمن القومي، وجهودها لإعادة تشكيل جهاز الشرطة بما يخدم أغراضها، ومعاداة السلطة القضائية ومحاولات تصفية القضاة، وأخيراً معاداة الإعلام الحر لمنعه من التغطية النقدية للأحداث، ومحاربة المثقفين بمحاصرة مجالات الإبداع المتنوعة. وهكذا فثورة يونيو الشعبية لم تكن بغرض تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة، ولكن بهدف الاعتراض على التغيير الهدام لطبيعة الدولة المدنية المصرية التي ميزتها منذ إنشائها في عهد محمد علي. وفي ضوء ما سقناه عن المباراة الصفرية، ارتفعت المطالبات بضرورة حل جماعة "الإخوان" وحظر نشاطها، والنص في الدستور على عدم قيام أحزاب سياسية لها مرجعية دينية. وإذا كانت هذه المطالبات لم تتطرف إلى درجة المناداة بالعزل السياسي لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين لأنها طريقة غير ديموقراطية في حل المشكلات السياسية، إلا أنه سيبقى ولا شك أن من حق أعضاء جماعة "الإخوان"، إذا ما تم تنفيذ خارطة الطريق. وبدأنا بالانتخابات الرئاسية وتليها الانتخابات البرلمانية، أن يرشحوا أنفسهم في هذه الانتخابات بصفتهم مواطنين عاديين، حتى لو لم يرفعوا شعارات دينية، أو يعلنوا بالضرورة عن انتمائهم لجماعة "الإخوان". ولنتصور من باب استشراف المستقبل أن الانتخابات البرلمانية تمت وأنه -على عكس كل التقديرات السياسية- نجح أعضاء جماعة الإخوان المسلمين مع السلفيين مرة أخرى بالرغم من كل ما ارتكبوه من أحداث دموية مروعة ستتم محاسبة قادتها عليها، فماذا يكون الموقف من هذا الوضع الإشكالي المتصور؟ هل تقوم الملايين بثورة جديدة ضد الجماعة حتى في حالة حلها لمنعها من أن تحكم حكماً مستبداً كما فعلت من قبل؟ ما هو الحل؟ في تصوري أن ما اقترحه الشيخ "راشد الغنوشي" رئيس حزب "النهضة" التونسي هو الحل. وذلك حين قال لابد من النص في الدستور التونسي بل وفي دساتير دول "الربيع العربي" عامة أنه لا يجوز للحزب الذي يحصل على أغلبية الأصوات أن يحكم بمفرده وأن يشكل الوزارة، على أساس أن الوزارة لابد أن تكون ائتلافية، وفقاً لشروط يضعها القانون المنظم للنص الدستوري المقترح. نزعم أن الأطراف السياسية المتصارعة في مصر وفي مقدمتها جماعة "الإخوان المسلمين" لم تفهم إطلاقاً الرسالة الرئيسية التي أعلنتها الجماهير في ثورة 25 يناير، وهي أنها لن تقبل أبداً أن ينفرد فصيل سياسي واحد بحكم البلاد، ويحتكر عملية صنع القرار! بعبارة أخرى الحل- في ذهن الجماهير – يكمن في التوافق السياسي! كيف؟ فلنبحث الموضوع بخيال واسع وبآفاق فكرية منفتحة، حتى لا يتحول الرفض السياسي لجماعة "الإخوان" إلى كراهية شعبية لأعضائها، وفي ذلك تهديد مؤكد للسلم الاجتماعي!