في عام 1994، وبعد أن أشرفتُ على الدراسة الرسمية التي أجرتها القوات الجوية الأميركية لحرب الخليج، خلصتُ إلى أن «القوة الجوية تمثل شكلاً» مغرياً على نحو غير عادي من القوة العسكرية، وذلك لأنها تمنح، على ما يبدو، شعوراً بالرضا، ولكن بدون التزام». والواقع أن هذه الملاحظة ما زالت صحيحة إلى اليوم، حيث تفسر تحمسَ إدارة أوباما لحملة الاغتيالات الواسعة ضد الإرهابيين التابعين لـ«القاعدة» بواسطة طائرات بدون طيار، بشكل خاص. كما أنها تنطبق أيضاً على هجوم محتمل قد تقوده الولايات المتحدة ضد النظام السوري رداً على استعمال هذا الأخير لأسلحة كيماوية ضد المدنيين. والحال أن أوباما وضع نفسه في ورطة حيث لم يعد بإمكانه أن يتجاهل «الخط الأحمر» الذي تحدث عنه. وإذا كان رئيس هيئة الأركان المشتركة قد عبَّر علناً عن تشككه بشأن أي استعمال للقوة في سوريا، فإن حجم ووحشية انتهاك النظام السوري لواحد من المحاذير الكبيرة يبدو أنهما سيُرغمان أوباما -الفخور جداً بسجله كرئيس أنهى حرباً على ما يفترض- على إطلاق الطائرات الحربية مرة أخرى في الشرق الأوسط. ويبدو أن الميل هنا هو إلى السير على خطى إدارة كلينتون -إطلاق وابل عديم الجدوى من صواريخ كروز، تعقبه تهنئة الذات ومحاولة تغيير الموضوع. ولكن ذلك لن يجدي نفعاً هنا لأن نظام أقلية يقاتل من أجل بقائه، على غرار نظام الأسد، يستطيع تحمل بضع عشرات من الضربات الصاروخية. ولكن ربما يكون الأهم في الأمر هو أنه لا أحد سيُخدع -لا الأصدقاء ولا الأعداء ولا المحايدون- وذلك لأنه بالنظر إلى موقف الولايات المتحدة الضعيف حالياً في المنطقة وخارجها، فإننا سنبدو أكثر ضعفاً إذا اخترنا التحرك على نحو غير فعال. بل يمكن القول إن موجة من القصف ستمثل مساراً أكثر ضعفاً وتهوراً مقارنة مع رفض للتحرك من جانب أميركا. والأكيد أن أية حملة قصف جدية ستكون لديها أهداف مهمة -القوات الجوية السورية على الأرجح، وهي الجهاز الذي قاده في وقت من الأوقات والدُ بشار الأسد، وهي ما يمنح النظامَ معظم تفوقه على الثوار، إضافة إلى نظام الدفاع الجوي ومطارات البلاد التي تصل عبرها المساعدات القادمة من إيران. وإذا اختارت إدارة أوباما أي نوع من الحملات الجوية، سيتعين عليها أيضاً أن تواجه بعض الحقائق الصلبة. فعلى رغم آمال بعض المؤيدين لحملة جوية ضد سوريا، إلا أن ذلك لن يكون عملاً جراحياً أو موضعياً، وذلك لأن أي تدخل حقيقي للقوة الجوية لا يكون جراحياً بطبعه رغم مزاعم الإدارة الحالية بشأن حملة الطائرات بدون طيار التي، مثلما بتنا نعرف اليوم، قتلت كثيراً من المدنيين. ذلك أن أي حملة قصف جدية تعني وقوع إصابات مدنية على أيدينا، كما أنها قد تعني أيضاً إصابات في صفوف القوات الأميركية وقوات الحلفاء كذلك، لأن الفكرة القائلة بجهد عسكري جدي بدون خطر تبدو سخيفة ولا أساس لها في الواقع. وعلاوة على ذلك، فإن الإدارة ستحتاج لإذن من الكونجرس. والحال أنه على رغم التزامه المزعوم بالشفافية والتفاصيل القانونية الخاصة بالكونجرس، إلا أن أوباما أثبت غير ما مرة أنه يتردد في الحصول على إذن الكونجرس من أجل استعمال القوة، وخاصة مع ليبيا في 2011. ثم إن التدخل العسكري لن يعرف نهاية نظيفة على الأرجح. فعندما أعلن النهايةَ الوشيكة للحرب مع «القاعدة»، أغفل الرئيسُ حقيقية استراتيجية أساسية: أن الحرب لعبة يشارك فيها طرفان (على الأقل). فالطرف الآخر هو الذي يقرر متى تنتهي، وليس نحن. وفي هذه الحالة، فإنه لا الحكومة السورية، ولا رعاتها الإيرانيون، ولا حلفاؤها «حزب الله» أو روسيا أو الصين، سيختارون تجاهل حملة القصف، على الأرجح. ولاعبو الشطرنج الذين يستشرفون ويفكرون في حركة مقبلة واحدة فقط عادة ما يخسرون، وكذلك الحال بالنسبة للرؤساء الذين يعتقدون أنهم يستطيعون إطلاق يوم أو يومين من الضربات ثم يقررون الانسحاب منتصرين، حيث يمكن أن يُشعر بتداعيات ذلك في البلدان المجاورة، بل يمكن أن يُشعر بها في الولايات المتحدة نفسها، وليس ثمة عذر لتجاهل هذه الحقيقة. ولكن على رغم كل هذه الحقائق، فإن عدم التحرك سيكون أمراً غير محتمل أيضاً، في هذا الوقت وبالمعاير التي حددتها الإدارة نفسها، وذلك لأن المذبحة في سوريا، التي تم تحملها طويلاً جداً، أخذت تقترب الآن من نفس حجم رواندا (حيث ارتفع عدد القتلى إلى ستة أرقام على الأقل)، إلا أنها تحدث في بلد أكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية. والواقع أن الوقت متأخر أصلاً، وقد يكون الأوان قد فات، لمنع سوريا من أن تتحول إلى أفغانستان أو يمن جديد، ومعقل لـ«الجهاديين» المناوئين للغرب، غير أن حداً خطيراً تم تجاوزه: استعمال أسلحة كيماوية على نطاق واسع. وفضلاً عن ذلك، فإن مكانة الولايات المتحدة وهيبتها باتتا على المحك. فلماذا يفترض بأي شخص، في أي مكان، أن يأخذ تهديدات أوباما (أو وعوده) على محمل الجد بعد الآن إذا لم يقم هذا الأخير بأي شيء هنا؟ فعدم التحرك يعني اتخاذ قرار، وهو قرار من أجل نتيجة أسوأ بكثير من تلك التي تنتظرنا. لقد قال جنرال بريطاني، ذات يوم، إن «الحرب هي خيار صعب، بل حزمة من الصعوبات». والسؤال المطروح أمام أوباما اليوم هو عما إن كان سيجعل الأمور أسوأ عبر إقناع نفسه بأنه وجد حلاً من الحد الأدنى لمشكلة شائكة وصعبة للغاية. إليوت إيه. كوهين أستاذ بكلية الدراسات الدولية العليا في جامعة جون هوبكنز الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»