نجاح التمييز بين الحكومة والدولة سيكون محورياً لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وذلك كتصوير جهاز مثل الاستخبارات الوطنية (MIT) بأنه امتداد للدولة وليس للحكومة الحالية، وأهمية ذلك في أعين الناخبين بجانب النجاحات الاقتصادية بطبيعة الحال وملف التعامل الذكي مع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المختلفة وقضايا التنوع العرقي وجذور التعددية الثقافية. وإنْ كانت تركيا ببراعة نجحت في دمج أفراد الأقليات في الأعمال التجارية لاستيعابهم ضمن النسيج الوطني، لكنها في ورطة أمام منعطف أزمة الهوية الجديدة للجمهورية التركية، وهو موضوع شائك. والسؤال الآن: إلى متى سينجح حزب «العدالة والتنمية» في الاختباء خلف جدار العزل الاقتصادي والحياة المدنية وعدم إظهار أجندته الحقيقية، وإنْ كانت البوادر واضحة للعيان وجنوحهم الإقصائي نحو دعم أبناء وأحزاب التنظيم الدولي للإخوان المسلمين حول العالم والتنسيق الدائم للوصول لحلم إعادة دولة الخلافة الإسلامية، مقابل ظهور انشقاق داخلي بين إسلاميي تركيا في التعامل مع الملف المصري. ويصر الغرب واللاعبون المؤثرون في الاقتصاد والسياسة الدولية لضمان مصالحهم الإقليمية في الشرق الأوسط ودول الجوار أن تلعب تركيا دور البلد المنسق في النظام العالمي الجديد، وتعزز دورها كمحطة لنقل الطاقة، فضلاً عن الموارد الزراعية والمائية. وبعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة في العالم، برزت أهمية تأمين إمدادات الطاقة والتمويل اللازم لتجنب الأزمة الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي مجدداً، مما جعل تركيا ورقة استراتيجية فعالة فيما يتعلق بسياسة الطاقة ومواردها والمستثمرين في سوقها، بجانب تنامي احتياجات تركيا من الطاقة لتلبية الاحتياجات في عملية التنمية، ولذلك لا غرابة في أن تركيا لاعب نشط في تعزيز علاقاتها بروسيا وبأصدقائها من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة المتحدثة باللغة التركية ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وطموح تركيا لا يتوقف عند حد أن تصبح لاعباً إقليمياً مهماً، بل لاعب عالمي مؤثر بعيداً عن شعارات الأخوة الدينية، ناهيك عن عدم أهمية كل ذلك في العقل التركي الجمعي وأنصار القومية التركية وتركيا المعاصرة باعتبارها بلداً حديثاً عالقاً بين عالمين، بين أوروبا وآسيا، والشرق والغرب، الإسلام والمسيحية. فمقوماتها كدولة وموقعها يجعلها مركز الثقل في أي استراتيجية حاسمة للدول العظمى ومستقبل أوروبا. وبين الهلال والنجمة، يقف طموح جيل الشباب التركي كأحجية يعجز عتاة السياسة المخضرمون عن تكوين العمق الاستراتيجي اللازم لفهم التوافقية السياسية والثقافية والدينية في تركيا الجديدة، خاصة بعد علمنة الدين ومفهوم و«ديرين دولت» أو الدولة الخفية المتمثلة في الجيش، الذي أتساءل: هل لا يزال يُمسك بيد من حديد على أركان الدولة بعد أن قوض أردوغان نفوذه ونصّب نفسه رئيساً للمجلس العسكري الأعلى، والذي يتحكم بقرارات الترقيات والتقاعد للقيادات العسكرية العليا؟. كما تغلل حزب «العدالة والتنمية» في المؤسسات الأمنية والعسكرية، وما معنى دور النخب الشبابية السياسية وفهمها للتنمية الديمقراطية الكاملة واعتقادها بفشل الدولة إذا كان الجيش لا يزال المتحكم الأكبر في صناعة السياسات وتسير الأمور خلف الكواليس، وهذا التناقض دفع رئيس الوزراء الحالي للإصلاحات التي قامت بها حكومة حزب «العدالة والتنمية»، لكي تكون تركيا أكثر ديمقراطية، واقتصادياً أكثر نضوجاً ووضع البلاد أقرب إلى معايير عضوية الاتحاد الأوروبي وأتباع تركيا لسياسة خارجية في علاقاتها مع جيرانها في إطار مفهوم «صفر من المشاكل»، حتى أصبحت تركيا من أكبر 15 اقتصاداً في العالم. وبالمقابل هناك حرب غير مرئية ضد المدنية في تركيا مثل قضية الحجاب، واستخدام العنف ضد المتظاهرين بجانب موقفها من «الربيع العربي»، وإرسال المستشارين لحكومة «الإخوان المسلمين» في مصر، بجانب القضايا التي تمثل إشكاليات رئيسية للحكومة التركية المتمثلة في موقفها المتناقض من قضايا الأقليات والتدخلات العسكرية وحرية التعبير والصحافة. وقد أصدرت الحكومة التي يقودها حزب «العدالة والتنمية» الحالي التشريعات الموائمة للاتحاد الأوروبي، ولكنها لا تزال تستخدم الدستور والقوانين ضد معارضيها بطريقة غير ديمقراطية ورؤية الحزب الحاكم للديمقراطية أمر مشكوك فيه مع وجود أكثر من 120 صحفياً في السجون، ووفقاً للدستور أن القضاة وأعضاء النيابة العامة يقعون تحت مسؤولية وزير العدل بدلاً من أن تكون جهات مستقلة، فحزب «العدالة والتنمية» أراد إحداث تغيير يميل بالقضاء لصالح أيديولوجيته الخاصة، وهي الاستشارة التي نصحوا بها الرئيس المصري المعزول الدكتور محمد مرسي، فهل سيكون الصراع في ظل استمرار حزب «العدالة والتنمية» بين الغرب وتركيا من جهة وبين الشرق الأوسط من جهة أخرى، صراعاً فكرياً أيديولوجياً ثقافياً، وأن فجوات التصدع في جدار العولمة ستكون هي ساحات القتال في المستقبل بعد أن جاء دور بعض الاقتصادات الناشئة لإنقاذ العالم المتقدم، وانكشاف الستار عن تناقضات النظام العالمي والتحولات الكبيرة في السياسة العالمية. فهل حان الوقت للاستبدال التدريجي لعصر الهيمنة الغربية على مدى السنوات الـ 500 الماضية؟ وهل ستركب تركيا موجة العولمة باقتدار وتتمسك بفرصة حقيقية قد تمكنها في أن تكون أحد الفائزين الحقيقيين في النظام العالمي الجديد. وقبل كل ذلك، هل ستقبل تركيا كأمة بوقوف طموح حزب في وجه طموح وحلم شعب بأكمله في عصر ما بعد النظام العالمي الجديد وتهديد التوازن والتوزيع الأفقي لتكتلات القوى العالمية؟ فكل الجهات الفاعلة بدأت عملية التكيف مع الحقائق الجديدة ومنظومة القطبية التعددية كمزيج بين القطبية والتعددية، يتمحور حول أهمية الدبلوماسية الناعمة والمرنة وقوة سلاح الاقتصاد والاستثمار والإبداع التقني والعلمي الخلاق والمصالح التبادلية الانشطارية السياسية (تنقسم على نفسها لتدخل في علاقات فرعية تتفجر منها علاقات فرعية جزئية قد تكون خارج المجموعات، ولكن تصب كلها في التبادلية المنفعية للقطبية التعددية). وبالتالي، الحفاظ على الشركاء التقليديين قد يكون أحياناً ضاراً أكثر مما هو نافع، وتركيا تدرك تماماً هذه الحسبة وتلعب على هامشها بذكاء يحسب لها لتعظيم مصالحها في حين تبقى خياراتها مرنة للتنقل بين العلاقات المتشابكة المعقدة من النفوذ في عالم سريع التغير والاعتمادية التشاركية بين مجموعات القوى المتنافسة بشكل تكاملي، لا تستطيع أن تغرد أي دولة خارج سربه منفردة، وتركيا كأكبر اقتصاد إسلامي في العالم مع سرعة انتشار الإسلام في العالم، يجعل العالم يعيد حساباته في التعامل مع تركيا، التي يبلغ عدد سكانها 75 مليوناً، وثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي، فهل ستعيد تركيا النظر حتى في انضمامها للاتحاد الأوروبي؟ وما هي الحاجة الماسة لتركيا للانضمام، وقد يضر الانضمام للاتحاد الأوروبي بالاقتصاد التركي من حيث عزوف المستثمرين والتضخم وارتفاع كلفة الأيدي العاملة وارتفاع أسعار المواد الأولية، وبالتالي ارتفاع سعر الكلفة وتدريجياً أسعار المنتجات التركية، والتي ستدخل في منافسة شرسة مع تسونامي المنتجات الصينية وقريباً الهندية والبرازيلية والإندونيسية والجنوب أفريقية ومنتجات الدول المتقدمة، التي ستكون بأسعار تنافسية وجودة أعلى. فتوقيت الانضمام بالنسبة لتركيا، قد يكون مسألة مرور دائم في عالم الاقتصادات الأكبر في العالم أو اقتصادات تصدير المواد الخام، إذا أخذنا بعين الاعتبار النمو المتصاعد للقطاع الخاص في تركيا وزحف نمور الأناضول نحو جميع الأسواق العالمية بطريقة تدريجية، فما الذي تريده تركيا عولمة الخلافة الإسلامية، أو الزحف الثابت لتكون ضمن حسبة الاقتصادات الأكثر تأثيراً في العالم.