من خطاب سياسي وشعبي يعيد الاعتبار إلى قبول الآخر، ينهي عنه الإقصاء والاستئصال، ويبدي أقصى الصرامة في أعمال العدالة... إلى خطاب يحتقر الآخر، يطالب حتى بإبادته (سياسياً)، ولا يقلقه سفك دمه. هكذا هي النفوس والعقول في المجتمعات التي تخلصت من نظام حكم لتبني نظاماً آخر جديداً. كانت الأنظمة السابقة توصلت إلى دول فاشلة أو في صدد الفشل - لكنها تدبرت أمورها بتنازلات أقل أو أكثر لتفادي الانهيارات أو تأجيلها، سواء في الاستقرار والأمن أو في نيل القروض الدولية ولو لتأمين صمود هش للعملة الوطنية أو لامتصاص صدمات في تسيير الشؤون العامة. أما الأنظمة البديلة التي سجلت بدايات بائسة، رغم انبثاقها من انتخابات حرة ونزيهة، فإنها وقعت سريعاً في فخاخ الاقتصاد والأوضاع الاجتماعية المتهالكة - وهي أفخاخ متوقعة بل معروفة مسبقاً - لكن الأهم أنها وقعت في المشاكل التي يفترض أنها جاءت إلى السلطة لتحلّها - وارتكبت الأخطاء التي ما كان لها، بصفتها منتخبة - أن تسمح لنفسها باقترافها. أكبر هذه الأخطاء، بل أفظعها، بعد انتفاضات شعبية، ووعي متزايد، وحراك شبابي دؤوب، أن يستسهل أي حكم جديد إدارة الانقسام الواضح في المجتمع أو السعي إلى ترويضه فيغرق أكثر ليسود أكثر. ذاك أن كل الطموحات الخبيثة بأن استغلال الانقسامات ممكن لنيل مكاسب سياسية وحزبية وأيديولوجية، ما لبثت أن باءت بفشل واضح، والأسوأ أنها قادت إلى نتائج كارثية. فالواقع، كما هو اليوم في مصر وتونس - كذلك في ليبيا التي لم تخرج بعد من مخاض «الثورة»، وحتى في اليمن، بات للأسف مراوحاً بين خيارين وكأن لا ثالث لهما: إما معنا أو ضدنا - إما نحن وإما هم - إما الحياة أو الموت. لا شك أن بعض أسباب ذلك يُعزى إلى ممارسات العهود السابقة، بما فيها من قمع واضطهاد وتعذيب وإهانة كرامات وانتهاك حريات وتلاعب بالقوانين وإساءة استخدام السلطة، لكن الملامح التي توفرت للأنظمة الجديدة فاقمت المخاوف من إعادة إنتاج ما سبق. انتظرت الشعوب ثلاثين - أربعين عاماً قبل أن تفجِّر غضبها. لا يمكن القول إنها أخطأت أو أنها عميت عن رؤية مصلحتها، ولا يمكن نسيان أن كل الانتفاضات بدأت بالمطالبة بالإصلاح، وبتحسين الأوضاع عيشاً وحرية وعدالة اجتماعية، لكنها جُبهت جميعاً بصدّ دموي دفعها إلى طلب التغيير الكامل. لا شك أن أسوأ ما تعرضت وتتعرَّض له هذه الشعوب هو بروز تيارات الإسلام السياسي التي اعتقدت، وهنا كان خطأها الأول والفادح، أن هذه لحظتها التاريخية، وأن هذه المجتمعات تتوق لأن تنقاد لها فتصرفت كأنها المنقذ المنتظر - وكما لو أن لديها ترسانات من الحلول والترياق لمجرد أنها تجمل فكراً دينياً، أي كما لو أنها حلّت للتبشير في أرض الجاهلية. ورغم تكاثر الأخطاء تباعاً (والاعتراف بها علناً، كما فعل محمد مرسي وراشد الغنوشي) إلا أن الأداء العام والإصرار عليه أشارا إلى انعدام الإرادة لدى هذه التيارات وجمهورها لمعالجة الإخفاقات، ما عني أنهم لم يروا تقصيراً في سياساتهم بل «ثورة مضادة» لا هدف لها سوى إفشالهم. في السابق لم يفوتوا فرصة لإدانة الأنظمة بأنها مرتهنة للقوى الخارجية، وقدموا أنفسهم باعتبارهم أبطال الوطنية والاستقلال والسيادة. وعندما تفشى وباء «الإرهاب الإسلامي» انبروا للدفاع عن الدين الحنيف وادعوا أنهم فرسان الاعتدال والوسطية والتسامح. وقد تبين الآن أن كل تكتيكاتهم للتعبير «السلمي» تستنهض بؤر الإرهاب وأساليبه، ثم إنهم اتخذوا «الوسطية» و«الاعتدال» شعارات لترويج أنفسهم سياسياً. وها هم في عمق المأزق راهنوا ويراهنون على إنقاذ خارجي، حتى إنهم يعربون عن «خيبة أمل» من هذه «الديمقراطية» التي تنازلوا باعتمادها، فإذا بها تخذلهم. سيلزمهم الكثير من الجهد والوقت ومصارحة الذات لإدراك أنهم خذلوا أنفسهم أولاً. وفي الانتظار سيعرف الجميع باستثنائهم، أنهم لم يخطئوا في حق جمهورهم فحسب، بل في حق مجتمعاتهم جميعاً. لم يسبق للانقسامات أن كانت عميقة وعمودية إلى هذا الحد، وفي أحلك المراحل السابقة لم يبلغ التباغض نقطة الاستهتار بوجود الآخر ومصيره وبقيم التعايش معه كما هو حالياً، الشعب ضد الشعب في معركة وجود لهذا وذاك. لا أحد يريد أن يتوقع أو يتخيّل كم من السنين يحتاج المجتمع ليتجاوز هذه الحال.