مما لا شك فيه أن الشرق الأوسط منطقة انشغال جيواستراتيجي أساسي للولايات المتحدة، حيث الأخيرة متواجدة فيه سياسياً وعسكرياً للمحافظة على مكانتها العالمية. ومن منظور أميركي وحده، بمجرد النظر إلى فترة 1979-2013 فإن الشرق الأوسط أصبح المسرح الأكبر للتدخل الأميركي من حيث تواتر التدخل ودرجته (عملية إنقاذ الرهائن الأميركيين في إيران عام 1979، الانتشار في لبنان عام 1982 وغارات "إلدورادو" عام 1986 على ليبيا ورفع العلم الأميركي على ناقلات النفط ومرافقتها في الخليج في سنوات1987 و1988، وحروب الخليج، وحفظ السلام في الصومال 1992، إضافة إلى كل ذلك، الحرب على الإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر وسقوط حزب «البعث» العراقي 2003 واحتلال العراق، وأحداث الربيع العربي الجارية. ففي وقتنا المعاصر الممتد من «الربيع العربي» لم يكن بروز البيارق الإسلامية في الدول العربية حدثاً غريباً على السياسة الأميركية التي تسعى للحفاظ على مصالحها، كما يسعى راعي البقر الأميركي للحفاظ على قطعان الماشية. فقد سجلت مؤسسة «راند» الأميركية الرائدة في البحوث الاستراتيجية في بداية قرننا هذا أبحاثاً ودراسات، بأن هناك دولاً عربية جمهورية ستنهار أنظمتها كحدٍ أقصى عام 2025، ونقلت تلك الأبحاث رؤى مستقبلية كيف ستتصرف وتتعامل الولايات المتحدة مع سقوط تلك الأنظمة. كما أن هناك دراسات قدمت للمؤسسة الأميركية بشقيها التنفيذي والتشريعي تحفز على خلق علاقات مع «الإخوان» لأن التغيرات السياسية الثورية والديمقراطية ربما تفضي بهم إلى السلطة، وهنا ليس بغريب بأن تكون واشنطن قد خلقت تصورات وسيناريوهات لمرحلة قد تجلب البيارق «الإخوانية» على كراسي بعض الأنظمة العربية. ويمكن القول بأن التوقعات الأميركية كانت خاطئة من حيث إن "الإخوان" المسلمين سيكونون ناجحين في سياساتهم الداخلية والدولية وخاصة المحافظة على المصالح الأميركية في المنطقة. ولم تكن الدراسات الأميركية ضعيفة، بل قوية تجاه التيارات الإسلامية، فحسب دراسة قيمة تقول إن الفقر وانخفاض مستوى التعليم وعدم وجود أيديولوجيات كالاشتراكية تعد سبباً رئيساً لانتشار الإسلام السياسي لدى المجتمعات ليس في الوطن العربي بل في تركيا أيضاً. وخلصت واشنطن أن «البيارق» قادمة لا محالة في بعض الأقطار العربية، وإن عليها التعامل مع الواقع الجديد، فراحت تميز «الإخوان» بالحداثيين الإسلاميين، ولم تكن واشنطن تتوقع أن تنهار البيارق بسرعة بسبب رفض قطاعات كبيرة من المجتمعات العربية، وأن هناك وعياً سيحدث في شرائح المجتمع العربي، والذي بدا مدركاً بأن «الإخوان» وصلوا لسببين: هما عدم وجود بديل واضح في بداية «الربيع العربي»، ولأنهم استولوا على شريحة كبيرة من الشعب بسبب العاطفة التي يولدها الانتماء للدين. وأعرض هنا المصالح الأميركية في الشرق الأوسط ولماذا تدعم واشنطن «الإخوان» في مصر بالذات، وسنختم التقرير بنظرة على الوضع العربي المعاصر في دول الربيع العربي. أولاً: المصالح الأميركية في الشرق الأوسط: التعرف عليها يساعد على فهم الوسائل السياسية والعسكرية التي استخدمت أو تُستخدم أو ستستخدم، وتشمل هذه الغايات التالي: أ- إسرائيل ومسار السلام: لقد التزمت الولايات المتحدة بأمن إسرائيل ورفاهها منذ إنشاء الدولة. وسيبقى هذا الارتباط بصورة مؤكدة مطلقةاً على المدى الطويل. وهي مع ذلك ستستمر في تشجيع مسار السلام في الشرق الأوسط. ب- أمن الطاقة: النفط والغاز في الشرق الأوسط لهما ثقل عالمي في الاقتصاد والتنمية والأمن على حد السواء، فوجود كميات ملائمة وأسعار معقولة سيبقى مصلحة حيوية لواشنطن، فهناك اكتشافات عديدة من احتياطات النفط العالمي في الشرق الأوسط. وتمثل دول الخليج وحدها 65 بالمئة مما ثبت من احتياطات النفط العالمية. وإذا تم إدراج نفط بحر قزوين وغازه فإن جزءاً عظيماً من الطاقة سيُصدر عبر المشرق والخليج- لذلك، فإن أهمية المنطقة من منظور نفطي سيبقي الولايات المتحدة في دورها الحالي باعتبارها الضامن القوي لنفاذ العالم إلى نفط الشرق الأوسط. ج- منع ظهور منافسين: تتبلور هذه الرؤية في منع ظهور منافسين قادرين على النجاح في تحدي القوة والنفوذ الأميركي. وهؤلاء المنافسون يمكن أن يأتوا من داخل المنطقة أو من خارجها أو بأطر من التحالف مثل موسكو مع إيران وسوريا. د- تشجيع الاستقرار الداخلي في دول الشرق الأوسط: وذلك مرتبط بدعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتخذها الدول. هـ- مواجهة الإرهاب: وهذه المواجهة باختصار تكونت بعد الحادي عشر من سبتمبر، وتحمل في طياتها مواجهة المتطرفين الإسلاميين مع من يعادي الولايات المتحدة الأميركية، وهذه تعد مزيداً من الذريعة في التدخل في مناطق الشرق الأوسط للحفاظ على الهيمنة الأميركية. ثانياً: التقارب الأميركي مع «الإخوان»: هذا التقارب يفسر عبر تصورين، الأول، واقعية المصالح، والثاني يندرج في نظرية المؤامرة. أ‌- واقعية المصالح: ربما رأت الولايات المتحدة أن التيارات الإسلامية يمكن السيطرة عليها في حال وصول أطراف رئيسية منها إلى السلطة في بعض الدول العربية وخاصة مصر كمركز لـ«الإخوان»، وهذا ما تم بعد الربيع العربي، ويمكن حصر تكون تلك الرؤية في النقاط التالية: 1) وجه المعارضة في الجمهوريات العربية قبل الربيع العربي في بعض الأقطار العربية، كانت سمات وجه القالب الديني (الإخوان المسلمين). 2) وجود رؤية أميركية بأن وصول التيارات الإسلامية في إطار سياسي وقانوني في بعض الدول العربية وخاصة مصر(لكونها تحمل مركزية التنظيم الإسلامي الدولي) يساعد على إدارة الصراع والمصالح معها، كما أن «الإخوان» سيسيطرون على فرقها وجماعاتها في الخارج، ولن يتعرضوا للمصالح الغربية أو الإسرائيلية، لأن لـ«الإخوان» مركزية في مصر، وكما يظن «الإخوان» في المقابل بأن دعم واشنطن والغرب لها يثبتها في السلطة، وهذا له بعد تاريخي لواشنطن، حيث كانت واشنطن قد أهملت التفاهم والاتصال مع المعارضة الخمينية واهتمت بالشاه، ناهيك بأن هناك أصلًا تعاوناً تاريخياً بين واشنطن والجماعات الإسلامية، ولو بشكل غير مباشر أو سري. حقيقةً، التوجه الداعم الأميركي تجاه «الإخوان» في مصر لم ينجح، وما زالت ترغب في إرجاع الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر لسببين، الأول تريد مركزية للتنظيم في مصر وتخاف على مصالحها من رد الفعل، والسبب الثاني لا شك أن واشنطن مصدومة بنجاح تحالف إقليمي متمثل في الإمارات والسعودية ومصر والكويت، ولا تريد نجاحاً لمثل هذا التحالف لأنه قد يجعل الأطراف الإقليمية تشارك بصورة أقوى في أمن واستقرار المنطقة، ويمكن تكرار ذلك في وجه موسكو في سوريا. ب‌- نظرة حول المؤامرة: خلق صراع بين الهويات الدينية والعرقية في الشرق الأوسط عبر بروز البيارق الإسلامية، فبروز الهويات هذه حقيقة واقعية في الشرق الأوسط تمثلت في صور قوية كالقومية الكردية «إقليم كردستان العراق»، وفي انفصال الجنوب المسيحي في السودان، وفي تنظيم «الإخوان» والمذهبية الشيعية العابرتين للقطرية، وإن صراع الهويات العرقية والدينية هدف أميركي. لكن ليس من العقلانية أن تهدف واشنطن إلى جعل الشرق دولاً تعكس صراع الهويات، لكي تزداد المنطقة دولاً من حيث الانفصال وتزداد صراعاً وفقراً، والتي ستجلب تحالفات إقليمية ودولية متعددة، تزاحم المكانة والمصالح الأميركية، كما أن بروز الهويات قد يشجع على بروز آخر للهويات في الدول الغربية، والولايات المتحدة لن تكون بعيدة عن العدوى. وما زلنا في أطروحة المؤامرة، هناك من يقول بأن ظهور أيديولوجيا جديدة كفيلاً بخلق أضداد لها، ويضرب مثالاً على الدين (كالإسلام المتشدد بالذات)، وهنا فإن وجود قوى إسلامية في السلطة، لابد أن يؤثر في بروز قوي للصورة الغربية الليبرالية، وفي حالة أخرى ربما يمهد إلى بروز وحضور أكبر للأطراف اليمينية في سلطة الأنظمة الغربية في أوروبا والولايات المتحدة. وعلى هذا التصور، يكون الغرب والشرق في صراع أيديولوجي وديني، مدعوماً ببعدين تاريخي وجغرافي. رغم ذلك الطرح، فالأيديولوجيا قد بلغت منتهاها كدافع لنزاع كبير وقوي في العلاقات الدولية، إلا في الشرق الأوسط لأنها تتدثر بعباءة الدين والعرق الضيقتين. في الخاتمة، لنقف على الواقع العربي الخطير، كانت مجتمعات عديدة في بعض الدول العربية تبحث عن العدالة والكرامة والتنمية في أوطانها، وأصبحت مع ذلك تحمل وتعاني حمل أثقال على أثقالها، والتي تتمثل في كونها أصبحت مجتمعات غير آمنة مع تلاشي سيطرة الدولة. وذلك يتضح من خلال عدة مستويات: أ- على مستوى الأنظمة والسلطة، هناك صراع داخلي ومسلح أيضاً يمتد إلى أطراف إقليمية ودولية في بعض الأقطار العربية، وأشد صراعاً في هذا الشأن في سوريا حيث مذابح نظام «البعث» ودعم موسكو وإيران و«حزب الله» له. ب- على مستوى الجماعات العرقية والدينية، لقد أصبحت أكثر بروزاً ومنشغلة بالحفاظ على موقعها وأمنها الخاص، وتسعى لتحقيق بروز واستقلالية لهويتها، وفي أحيان تتصل بالخارج للتعاون وطلب الدعم. ج- على مستوى الأفراد العاديين في بعض الأقطار العربية، يواجهون دولاً مختلة لا تستطيع تحقيق الأمن، ولا كذلك المطالب الأساسية من التنمية والحياة الكريمة. د- ومن الواضح أن ثورة المعلومات قد أصبحت دافعاً رئيساً في المستقبل السياسي والأمني للشرق الأوسط الكبير، فمن شمال أفريقيا إلى الخليج العربي يزداد التواصل الإلكتروني بصورهِ المتعددة والمختلفة، وهذا التواصل بدورهِ يدعم بروز الهويات العرقية والطائفية والمذهبية مع وجود فعالية لحركات المعارضة السلمية والعنيفة. وهذا ليس بجديد، ففي السبعينيات استعمل الخميني أشرطة مهربة لنشر أفكارهِ ومشروعهِ في إيران، فالثورة المعلوماتية لها قدرة على نشر العنف السياسي في المنطقة.