لا تكشف تطورات القضية الفلسطينية عن مستقبل واعد في العقود الأخيرة، فمنذ التوصل لاتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين في عام 1993 دخلت القضية الفلسطينية في طور جديد، فالطرف الفلسطيني في الاتفاقية كان هو الفصيل المقاوم الرئيس وقد أصبح الآن طرفاً في عملية سياسية وتحولت قواته من قوات مقاومة إلى ما يشبه الشرطة، ولم يبق في الساحة الفلسطينية من قوة مقاومة سوى «حماس». غير أن «حماس» بدورها فقدت صفتها المقاومة بقرارها دخول الانتخابات التشريعية في عام 2006 وفوزها في تلك الانتخابات الأمر الذي أعطاها الحق في تشكيل حكومة السلطة الفلسطينية التي تنص اتفاقية أوسلو على تكوينها. ومنذ ذلك الوقت تحولت «حماس» من حركة تحرير إلى حركة تتبع أسلوب الكر والفر إلى ما يشبه الدولة المعنية بإنشاء مؤسساتها ومقراتها الأمر الذي جعلها هدفاً سهلاً للغارات الإسرائيلية. وهكذا فقدت الساحة الفلسطينية قوى المقاومة جميعاً علماً بأن مقاومة العدو هي الوسيلة الوحيدة لتصحيح ميزان القوى لصالح السلطة الفلسطينية، وبدون هذا التصحيح لن تكون هناك تسوية متوازنة أو حتى شبه متوازنة. ثم زاد الطين بلة في العام الذي تلا الانتخابات بالصدام المسلح الذي حدث بين «فتح» و«حماس» في قطاع غزة، وبالتالي قضى على إمكانية المصالحة بينهما والدخول في أي تفاعلات من أجل القضية الفلسطينية بإرادة فلسطينية موحدة. ثم حدث التطور الأهم بعد ثورة يناير في مصر وتولي أحد المنتمين لتنظيم «الإخوان المسلمين» منصب رئاسة الجمهورية، ولما كان من المعروف أن «حماس» فرع من فروع «الإخوان المسلمين» فقد تدفقت المساعدات المصرية إلى قطاع غزة، وقد كان هذا موضع ترحيب من الثوار في مصر باعتباره مساهمة من ثورة يناير في دعم القضية الفلسطينية، غير أن الأمر تغير تدريجياً وبالذات من قبل الرأي العام حيث تزامن تقديم المساعدات لقطاع غزة مع حدوث أزمات طاحنة في الحياة اليومية للمصريين وبالتالي بدا الأمر وكأنه تفضيل لمصلحة القطاع على مصالح الشعب المصري. وأضيفت إلى هذا تسهيلات دخول الفلسطينيين إلى سيناء وخروجهم منها وشائعات عن عدم تحمس الرئيس المعزول لهدم الأنفاق التي تربط بين سيناء والقطاع علماً بأن هذه الأنفاق شديدة الإضرار بالأمن المصري نظراً إلى أنها تجعل عبور الحدود المصرية من القطاع وإليه مسألة خارجة عن السيادة المصرية. وتزامن ذلك مع شائعات توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء، وكذلك لوحظ أن هناك نوعاً من التراخي في إجراءات دخول الفلسطينيين من مطار القاهرة وخروجهم منه حتى بالنسبة للذين كانت هناك علامات استفهام بالنسبة لوضعهم ومنهم أولئك الفلسطينيون القادمون من إيران وتم احتجازهم ثم الإفراج عنهم في واقعة غير مسبوقة، وقيل إن هذا قد تم بأوامر من الرئاسة. كان كل ما سبق يجمع ما بين عنصر الحقيقة وعنصر الشائعات غير أن حكماً صدر من محكمة في مدينة الإسماعيلية أدان «حماس» باعتبارها مسؤولة عن الهجوم على سجن طرة وتهريب المعتقلين والمساجين وكانوا يضمون المعتقلين من قيادات «الإخوان المسلمين» الذين تم اعتقالهم في سياق أحداث يناير ومنهم الرئيس المعزول، وأثبت تدخل «حماس» في الشأن المصري وكذلك أثار احتمال أن تكون الحركة قد شاركت في الهجوم على أقسام الشرطة إبان أحداث الثورة. وبدأت الشكوك تحوم حول «حماس» في حوادث قتل الجنود المصريين وفي المشاركة في العمليات الإرهابية في سيناء، وعندما اعتصم «الإخوان المسلمون» في بعض من أهم ميادين القاهرة والجيزة رصد وجود عناصر فلسطينية داخل الاعتصام وكذلك عندما تم فضه. ما علاقة كل ما سبق بمستقبل القضية الفلسطينية؟ الحقيقة أن «حماس» بتدخلها في الشأن المصري على النحو السابق نصرت التنظيم الذي تنتمي إليه وهو «الإخوان» وخذلت القضية الفلسطينية التي يفترض أن تكون شغلها الشاغل، ولكنها بنت حساباتها على أساس خاطئ وهو دوام حكم «الإخوان المسلمين» لمصر، وبهذا تكون وفقاً لهذه الحسابات قد كسبت حليفاً استراتيجياً بوزن مصر. ولكن ما حدث هو أن «الإخوان» عندما حكموا مصر أثاروا سخط الشعب المصري إلى الحد الذي جعله يثور ضدهم بالملايين ويخلع الرئيس المعزول المنتمي إليهم بمعاونة الجيش الذي لم يجد أمامه بديلاً سوى دعم الإرادة الشعبية، وعندما تم عزل الرئيس المنتمي لـ«الإخوان» تكشفت أكثر الحقائق المتعلقة بتدخل «حماس» في الشأن المصري الداخلي ورعايتها الإرهاب في سيناء. وهكذا لم تخسر «حماس» حكماً حليفاً بوزن مصر فحسب وإنما خسرت -وهذا هو الأهم تأييد الشعب المصري. وهكذا كسبت «حماس» تأييد «الإخوان المسلمين» تطبيقاً لحسابات استراتيجية خاطئة، ودفعت في ذلك ثمناً باهظاً هو خسارة تأييد معظم الشعب المصري مسددة بهذا ضربة قوية للقضية الفلسطينية ومستقبلها، وأضافت بذلك متغيراً مهماً يعمل في اتجاه مستقبل قاتم للقضية الفلسطينية، وقد نكون بحاجة إلى وقت طويل قبل أن يستعيد الشعب المصري تأييده لهذه القضية. وأخيراً وليس آخراً فإن القضية الفلسطينية تعاني من عقم المسار التفاوضي، إذ لم يؤد هذا المسار منذ أن تم توقيع اتفاقية أوسلو 1993 إلى أي تقدم يذكر في حصول الفلسطينيين على حقوقهم، بل إن كل يوم مضى منذ ذلك الوقت قد شهد تغولاً من إسرائيل في عملية الاستيطان في الأراضي الفلسطينية التي تهدد بتصفية القضية، وقد قاطعت السلطة الفلسطينية المفاوضات مع إسرائيل اقتناعاً منها بهذا الخطر. وهو موقف سليم ولكن ما كان ينقصه هو عمل فاعل بوقف عملية الاستيطان، وهذا ما لم يكن في مقدورها فضاعت سنوات المقاطعة في مزيد من قضم سلطة الاحتلال للأراضي الفلسطينية. وابتداء من الفترة الثانية لحكم أوباما آلت الخارجية الأميركية بوزيرها الجديد جون كيري على نفسها أن تعمل من أجل استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولم يكن المرء يدرك ما إذا كان المسعى الأميركي الجديد يعبر عن رغبة صادقة في إحياء المسار التفاوضي الفلسطيني- الإسرائيلي، أم أنه نوع من إلهاء الفلسطينيين وإيهامهم بأن ثمة تقدماً ما يحدث بالنظر إلى أن الخارجية الأميركية هي أول من يعلم -من واقع الخبرات السابقة أن إسرائيل لا تنوي تقديم أي تنازل جوهري في المفاوضات. وقد نجح كيري بالفعل في جمع الطرفين على مائدة التفاوض لأول مرة منذ سنوات من أجل مكاسب شكلية قدمت للطرف الفلسطيني، وكان كل متابع لتطور القضية يدرك ألا أمل يرجى من هذه المفاوضات، وإن جادل البعض بأن ثمة جديداً فيها هذه المرة كطرح كافة القضايا بما فيها أكثرها حساسية، وكلها أوهام زائفة سرعان ما تتبدد بسبب القرارات الإسرائيلية بإقامة مزيد من المستوطنات. وثمة عوامل تشير إذن إلى مستقبل قاتم للقضية الفلسطينية، ولن يكون ممكناً إنقاذها إلا بعمل فلسطيني جاد وجديد يعكس الإرادة الموحدة للشعب الفلسطيني.