في أحدث فصل من فصول المحاكمة المثيرة، أدلى الزعيم الصيني المعزول «بو شيلاي»، باعترافات مثيرة أقرّ ضمنها جزئياً ببعض التهم الموجهة إليه، وقال أول من أمس السبت أمام المحكمة، إنه مذنب بـ«إساءة التقدير»، وإن أفعاله «أضرت بسمعة الحزب الشيوعي والبلاد». واللافت في هذه الاعترافات أنها جاءت بعد جلسة الخميس الماضي، حين دافع «بو» عن نفسه باستماتة، ونفى كل التهم الموجهة إليه، قائلاً إنها ملفقة تلفيقاً، وإنه اعترف بها قسراً خلال التحقيقات. وكما كان نفي «بو» للتهم الموجهة له واللغة القوية التي تحدث بها يوم الخميس الفائت، في أول ظهور علني له منذ إقالته، أمراً مفاجئاً وغير متوقع، كذلك مثّلت اعترافاته يوم السبت تحولاً مثيراً في أهم محاكمة سياسية تشهدها الصين منذ عقود. و«بو» الذي تتهمه محكمة «جينان» في شرق البلاد، بالحصول على أموال بطريقة غير مشروعة قدرت بنحو 27 مليون يوان (4?4 مليون دولار)، وبالفساد واستغلال النفوذ، هو سياسي وزعيم حزبي بارز في الصين، وسبق أن كان وزيراً للتجارة، وزعيماً للحزب الشيوعي الصيني في مدينة تشونجتشينج، وعضو اللجنة المركزية في المكتب السياسي للحزب. وقد ولد «بو شيلاي» عام 1949 في مقاطعة شانشىي بشمال شرق الصين، لوالده «بو يي بوه» الذي كان أحد أبرز ثمانية قادة في الحزب الشيوعي الصيني. أما «بو شيلاي» نفسه فكان يلقب في شبابه بـ«الأمير الأحمر»، حين كان جزءاً من «لجنة العمل المتحد»، الفصيل الأكثر عنفاً في الحرس الأحمر. وقد انقطع عن دراسته لبعض الوقت خلال الثورة الثقافية، لكنه استأنفها عام 1977 وحصل على شهادة البكالوريوس في التاريخ من جامعة بكين، ثم على درجة الماجستير في الصحافة من أكاديمية العلوم الاجتماعية ببكين عام 1982. وقد بدأ «بو» العمل في الحزب الشيوعي الصيني عام 1968، لكنه لم ينل عضوية الحزب إلا في عام 1980. وبعد عامين عمل في إدارة «البحث» بالأمانة العامة للجنة المركزية للحزب. ثم انتقل إلى مقاطعة لياونينج في الشمال الشرقي الصيني، حيث أمضى الشطر الأكبر من حياته المهنية متنقلاً بين مواقع مختلفة داخل الحزب. وفي عام 1992 أصبح عمدة «داليان»، إحدى مدن الإقليم الواقعة على خليج كوريا. وبين شهري أغسطس 1999 وديسمبر 2000، عُين سكرتيراً للجنة الحزب في «داليان»، قبل تعيينه حاكماً لإقليم لياونينج. وخلال تلك السنوات حقق «بو» نجاحاً كبيراً في مهامه كرئيس لبلدية «داليان» الساحلية، ثم كحاكم للإقليم ككل، ليصبح في عام 2002 عضواً بالمكتب السياسي للحزب، ثم عضواً باللجنة المركزية للمكتب السياسي عام 2007. وفي فبراير 2004، عُين «بو» وزيراً للتجارة في جمهورية الصين الشعبية، وهو منصب حساس في ثاني أكبر قوة اقتصادية على مستوى العالم، خاصة عقب انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، إثر تعهد أميركي أوروبي بإلغاء الحواجز الجمركية أمام منتجات النسيج المصنعة ابتداءً من مطلع 2005. لكن بالنظر للزيادة الحادة في الواردات النسيجية من الصين، ردَّ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بإجراء يحد من كمية الملابس الصينية المستوردة إلى أراضيهما، الأمر الذي تطلّب سلسلة مفاوضات شاقة مع القوتين الغربيتين، كان خلالها «بو» ممثلاً عن الصين. أما سنوات ولايته على مدينة «تشونجتشينج» بإقليم «سيتشون» في الجنوب الغربي، بين عامي 2007 و2012، فكانت قمة مجده، حيث اكتسب سمعة كبيرة بفضل قيادته حملة طويلة الأجل لمكافحة الجريمة المنظمة، واستعادة البرامج الاجتماعية لصالح الطبقة العاملة في المدينة، والسعي لتحقيق معدل نمو إجمالي من رقمين، كما بدأ حملة للتبشير بـ«الماوية الجديدة» ولإحياء الثورة الثقافية. وقد شهدت تشونجتشينج في عهده قفزة كبرى وتحولت إلى قطب اقتصادي ينافس شنغهاي وبكين وتيانجين، فتجاوز عدد سكانها 30 مليون نسمة، وأصبحت موطناً للاستثمارات الضخمة، ومركزاً جاذباً للباحثين عن فرص الاستثمار والعمل، كما باتت ورشة كبرى لمشاريع البنية التحتية وناطحات السحاب. وكان من شأن الخطاب الشعبوي لـ«بو»، معززاً بـ«نموذج تشونجتشينج»، أن يجعل منه بطل اليسار الصيني الجديد، في ظل سياسات الإصلاح الاقتصادي وما أوجدته من فوارق طبقية وفجوات في الثروة بين الصينيين. وفيما كان «بو» ينتظر صعوده لعضوية اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، خلال المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب خريف عام 2012، حدث ما لم يكن متوقعاً أوائل ذلك العام، عندما طلب «وانج لي جون»، نائبه على رأس البلدية وقائد شرطتها، حق اللجوء في القنصلية الأميركية، عقب اكتشاف تورطه مع «جو كايلاي»، زوجة «بو»، في قتل المستثمر البريطاني نيل هيوود، في أكتوبر 2011. ثم سرعان ما اتضح أن «بو» كان يتنصت على عدد من قادة الحزب الشيوعي، بمن فيهم الرئيس هو جين تاو نفسه. وعندئذ تمت إقالة «بو» من مسؤولياته على مستوى «تشونجتشينج» في مارس 2012، ثم طرد -في أبريل- من اللجنة المركزية للحزب، بينما وُضعت زوجته تحت المراقبة، قبل إصدار القضاء حكماً بإعدامها، في أغسطس 2012. أما محاكمة «بو شيلاي» نفسه فبدأت الخميس الماضي في جينان، عاصمة مقاطعة تشاندونج، بتهم «الفساد والاختلاس وإساءة استخدام السلطة»، ليصبح أرفع مسؤول صيني يمثل أمام القضاء منذ محاكمة «عصابة الأربعة» وسقوط جيانج تشينج أرملة ماو تسي تونج عام 1976. وبينما يرى بعض النشطاء الصينيين المعارضين أن الجريمة الحقيقية لـ «بو»، والذي تأخرت محاكمته سنة كاملة وسببت حرجاً شديداً للحزب الشيوعي الصيني، كونه تحدى الطريقة التي يدير بها الحزب أمور البلاد... تدرج وكالة الأبناء الصينية الرسمية «شينخوا» هذه المحاكمة في سياق الاهتمام الخاص الذي توليه القيادة الصينية الجديدة لمكافحة الفساد ودعواتها المتتالية لمحاربته. وتشير الوكالة إلى حكم الإعدام الصادر بحق وزير السكك الحديدية السابق «ليو تشي جون» أوائل هذا الشهر، لتلقيه رشى واستغلال منصبه، وما تلا ذلك من فصلٍ لمسؤولين بارزين آخرين والتحقيق معهم على خلفية انتهاكهم قواعد الانضباط، مثل «ليو تيه نان» نائب الوزير السابق ومسؤول اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، و«لي تشون تشنج» الأمين السابق للجنة سيتشوان في الحزب الشيوعي الصيني. لكن تبقى قضية «بو»، «الأمير الأحمر» الذي يحظى بشعبية لدى المحافظين والمهمشين، استثنائية في بعض أبعادها الشخصية والحزبية، وغامضة في بعض إجراءاتها القضائية (واعترافاتها)، ومحرجة في ارتداداتها الإعلامية. محمد ولد المنى