عندما توجه الحكومة الأميركية أمراً لإحدى شركات الاتصالات بالكشف عن بياناتها، فإن الشركة تكون أمام خيارين رئيسيين: إما المقاومة ومواجهة خطر ذهاب مدرائها إلى السجن؛ وإما الامتثال وفقدان ثقة زبائنها. غير أنه خلال الأسبوع الماضي، اختارت شركتان حريصتان على خصوصية زبائنهما خياراً ثالثاً غير مسبوق تمثل في إقدامهما على الانتحار بدلًا من الخضوع لرغبات "دولة المراقبة". وقد لا تكون تلك سوى المعارك الأولى على جبهة جديدة من حرب المراقبة. ففي خطوة لتجنب المراقبة الحكومية لحسابات البريد الإلكتروني الخاصة، آثرت شركتان لخدمة البريد الإلكتروني الآمن أن تغلقا أبوابهما بشكل نهائي الأسبوع الماضي على أن تكشفا للسلطات عن معلومات بشأن مستخدمي خدماتها. الشركة الأولى "لافابيت" التي يوجد مقرها في دالاس – والتي تضم ضمن مستخدميها، على ما يقال، الموظفَ السابق في وكالة الأمن القومي الذي قام بتسريب معلومات سرية، إدوارد سنودن – أوقفت عملياتها بعد أن خاضت على ما يبدو معركة خاسرة لمقاومة أمر فيدرالي بالمراقبة. وبعد بضع ساعات على ذلك، أعلنت شركة "سايلنت سُركل"، التي يوجد مقرها خارج العاصمة واشنطن، عن تعليق خدمة البريد الإلكتروني المشفر التي توفرها لزبائنها كإجراء استباقي قبل تلقيها أمراً من الحكومة بالتجسس على مستخدميها. القرار المتطرف الذي اتخذته الشركتان يضعهما في ناد حصري؛ حيث يقول خبراء أمنيون وقانونيون إنهم لا يستطيعون تذكر شركة منعت الحكومة من الوصول إلى معلومات زبائنها عبر وقف نشاطها. ذلك أن بعض الشركات تقوم باستئناف أوامر المراقبة في المحاكم، أو تسعى للضغط في اتجاه إطلاع الجمهور على عملية جمع المعلومات الاستخباراتية السرية، ولكنها تواصل نشاطها. ثم إن رفض الامتثال لأمر رسمي قد يعني أيضاً أن الحكومة لن تطلع على معلومات قيِّمة ربما قد لا تكون لديها وسيلة أخرى للحصول عليها. وقال "لادار ليفيسون"، مالك ومسيِّر "لافابيت"، في رسالة مبهمة لزبائنه إنه "اضطر لاتخاذ قرار صعب: إما أن يصبح متواطئاً في جرائم ضد الشعب الأميركي أو أن ينسحب بعد 10 سنوات من العمل الجاد عبر إغلاق لافابيت". "ليفيسون" لم يوضح طبيعة الظروف التي دفعته لاتخاذ هذا القرار، ولكن رسالته تشير ضمنا إلى أنه رفض الامتثال لأمر رسمي بالسماح للسلطات بالاطلاع على البريد الإلكتروني لمستخدمي "لافابيت"ومنح الحكومة إمكانية الوصول حاليا ومستقبلا إلى أنظمة الشركة. وأشار "ليفيسون" ضمن رسالته إلى أنه مُنع من مناقشة "الأحداث التي أفضت إلى القرار الذي اتخذه". والجدير بالذكر هنا أن الأشخاص الذين يتلقون أوامر حكومية بالمراقبة صادرة بشكل سري غالبا ما يُمنعون من الكشف أو التحدث عنها علانية. ومن جانبها، أشارت "سايلنت سُركل"، في رسالة إلى زبائنها، إلى سبب "لافابيت" إذ قالت: "إننا نرى مؤشرات تلوح في الأفق، ولذلك قررنا أنه من مصلحتنا إغلاق "سايلنت سُركل" الآن. إننا لم نتلق أي استدعاء للمحكمة، أو مذكرة تفتيش، أو طلب من السلطات الأمنية، أو أي شيء من قبل أي حكومة؛ ولهذا السبب قررنا التحرك الآن". الشركة أقرت أيضاً بأن خدمتها للبريد الإلكتروني لا تتوفر على حماية قوية على غرار خدمتي الهاتف والرسائل النصية، والتي يمكن أن تحذف الاتصالات والمعلومات بشكل كلي، وكذلك أي بيانات وصفية تتعلق بها. ويُشار هنا إلى أن البريد الإلكتروني يترك أثراً رقميا يمكن استعادته؛ وبالتالي تستطيع السلطات الضغط في اتجاه الكشف عنه. وقال "فيك هايدر"، المدير التشغيلي للشركة: "إنه قرار صعب، ولكننا لم نستطع الانتظار إلى حين وقوع ما لا مفر منه"، ومن جانبه، قال "جون كالاس"، مدير التكنولوجيا في "سايلنت سركل" والخبير المعروف في أمن المعلومات: "لقد اجتمعنا هذا المساء ولم نتوصل لأي خيار آخر". الشركات التي تتلقى أوامر بالمراقبة تجد نفسها في موقف لا تحسد عليه. فبعضها، مثل ياهو ومايكروسوفت وجوجل، إما قاومت وخاضت معارك ضد أوامر المراقبة في المحاكم، أو طلبت من الحكومة السماح لها بالكشف عن مزيد من المعلومات حول ما تطلبه السلطات بخصوص مستخدمي خدمات الشركات. ولكن حتى الآن، امتثلت هذه الشركات وغيرها للأوامر، ومن ذلك "فيسبوك" التي تملك مئات الملايين من المستخدمين، وساعدت على تشكيل العمود الفقري للمراقبة الرسمية. والأكيد أن إغلاق شركة ما ليس مخالفاً للقانون؛ ولكن المخالفة تكمن في التهرب من أمر رسمي . أما العقوبات والتهم التي قد يواجهها "ليفيسون"، فتتوقف على الأشياء التي تريدها الحكومة. وهكذا، فإنه يمكن أن يواجه تهمة عصيان أمر رسمي، والتي يمكن أن تصل عقوبتها إلى السجن إذا رفض الامتثال لأمر من المحكمة. لكن الحكومة قد تكون أيضاً بصدد السعي وراء مراقبة حالية أو مستقبلية لزبائن "لافابيت" والوصول إلى أنظمة الشركة. ونظرا للقرار المتطرف الذي اتخذته "لافابيت، فإن ذلك قد يكون واقع الحال على الأرجح. إلا أنه إذا كان إغلاق الشركة لن يمنع السلطات من الوصول إلى البريد الإلكتروني القديم لسنودن أو أي زبون آخر، فإن وقف النشاط سيعني أن "لافابيت" لن تستطيع الامتثال لأي مراقبة في المستقبل. ويقول جيداري: "ربما من خلال إقدامه على إغلاق الخدمة، فإنه لا يستطيع الامتثال؛ وبالتالي، فإنه من المستبعد أن توجه إليه تهمة العصيان"؛ غير أن "إغلاق الخدمة قد يُنظر إليه على أنه عرقلة للعدالة؛ وبالتالي، فإنه يمكن القول إنه لم يجتز المتاعب بعد". ------- شاين هاريس محلل سياسي أميركي ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»