بالأمس القريب فقط، كانت إيطاليا تمثل الاقتصادَ الصاعد بقوة في أوروبا، وحالة جمعت بين الدينامية والنمو السريع من جهة، وأسلوب حياة يحسدها عليه كثيرون، من جهة أخرى. أما اليوم، فقد بات يُنظر إليها على أنها مصدر تهديد كبير لمستقبل «اليورو»، بل وللاتحاد الأوروبي ككل. ذلك أن النظام السياسي لإيطالي بات مفتقداً للمصداقية في وقت يحاول فيه جاهداً التعاطي مع دَين عام ضخم ومعدلات نمو اقتصادي ضعيفة. ونتيجة لذلك، أخذ الشباب الإيطالي يهاجر إلى الخارج بأعداد كبيرة بسبب الإحباط من قلة الفرص؛ هذا في حين ما زال كبار السن يتشبثون بحقوقهم وامتيازاتهم بعناد، متوجسين من مستقبل غير أكيد. وعلى رغم حزمة إنقاذ «اليورو» الأخيرة في بروكسل، إلا أن إيطاليا ما زالت تمثل قنبلة موقوتة حيث يُعتبر دَينها العام، الذي يناهز 2,5 تريليون دولار، ثالثَ أكبر دين عام في العالم، وهو ما يجعلها أكبر من أن تـُنقـَذ مالياً. كما أنها فقدت قوتها التنافسية إذ تقلص ناتجها المحلي الخام بشكل ملحوظ من 2001 إلى 2012 في أداء يُعد هو الأسوأ مقارنة مع أي بلد غني آخر. ولحسن الحظ، فإن إيطاليا، مثلما يشير إلى ذلك الكاتب «بيل إيموت» في كتاب: «إيطاليا الجيدة، إيطاليا السيئة: لماذا يجب على إيطاليا أن تتغلب على مشاكلها لتواجه المستقبل»، أديرت من 2011 إلى 2013 من قبل حكومة تقنوقراطية بقيادة الخبير الاقتصادي ماريو مونتي، وهي أول حكومة إصلاحية تعرفها البلاد منذ سنوات. و«إيموت»، الذي كان يشغل منصب رئيس تحرير مجلة «سي إيكونوميست» البريطانية من 1993 إلى 2006، جعل من إيطاليا موضوع تخصصه متأثراً بمعارك القذف والتشهير مع سلف مونتي، المثير للجدل سيلفيو برلسكوني. ويُعتبر كتابه الجديد هذا نسخة إنجليزية محدثة لنسخة سابقة نشرت باللغة الإيطالية في 2010 تحت عنوان «فورسا، إيطاليا» (وهو تلاعب مقصود بالكلمات يحيل إلى حزب برلسكوني وشعار يهتف في مباريات كرة القدم ويعني «هيا يا إيطاليا»). ولعل خير وصف لأطروحة هذا الكتاب هو عنوانه: فهناك في الحقيقة «إيطاليان» -وليس إيطاليا واحدة. والواقع أن ذلك كثيراً ما يقال عن شمال إيطاليا الصناعي المزدهر والجنوب الفقير نسبياً؛ ولكن هذا ليس هو المقصود بتمييز «إيموت»، الذي يجد أشياء جيدة وأخرى سيئة عبر كل أرجاء البلاد. فعلى الجانب الجيد، يشير الكاتب إلى حالات مثل ماريو مونتي، والشباب الإيطالي الذي يؤمن بالمبادرة الحرة، والصناعة القوية، و«فيات» و«تورينو» اللتين بُعثت فيهما الحياة من جديد. أما على جانب الأشياء السيئة، فيشير الكاتب إلى برلسكوني، والجريمة المنظمة، والفساد، والقطاع العام، وطول الإجراءات البيروقراطية وتعقيدها. وتتخلل سرد «إيموت» طرائف ومستملحات للأشخاص الذين التقاهم في أسفاره، وخاصة أثناء إعداده لفيلم وثائقي. والواقع أنه من الممتع قراءة الكثير من الأشياء الإيجابية عن إيطاليا وسط أجواء الكآبة السائدة: محاربة الجريمة المنظمة في الجنوب، والقوة التصديرية لشركات عائلية في الشمال، وتأثير الإصلاحات التي جاء بها مونتي. والكاتب يجد الكثير من الأسباب للأمل. ولكن بشكل عام، يبدو أن كتابه يفرط في التفاؤل بعض الشيء؛ ذلك أن مونتي الذي لم يعد رئيساً للوزراء الآن، وعلى رغم شجاعته وجرأة إصلاحاته، إلا أنه كان قد فقد الكثير من شعبيته خلال الهزيع الأخير من حكمه؛ كما أن بعض إصلاحاته خُفف؛ وقدرته على القيام بالأشياء ضعفت مع اقتراب الانتخابات. وإذا كانت الحركة المناوئة للمافيا في صقلية شيئاً مشجعاً ويبعث على الارتياح، فإن الجريمة المنظمة امتدت واتسعت إلى شمال البلاد أيضاً. كما أن بعض الشباب الإيطالي موهوب ويتميز بالجد والتفاني في العمل، ولكن كثيرين منه يستعملون مواهبهم في الخارج وليس في وطنهم. وفضلًا عن ذلك، فإن المشاكل والعيوب البنيوية العميقة التي تعاني منها إيطاليا -قطاع عام غير فعال، وتوقعات ديموغرافية سيئة، وجامعات ضعيفة، ونظام قضائي بطيء على نحو كارثي- ستحتاج إلى سنوات من أجل إصلاحها ومعالجتها. وقد أظهرت أزمة «اليورو» الحاجة الملحة والمستعجلة للإصلاحات، ولكنها جعلتها أكثر صعوبة بسبب إعاقتها للنمو. كما أن إيطاليا لديها القليل من الليبراليين الذين يؤمنون بالإصلاح حقاً. ومنذ بداية الكتاب يلفت «إيموت» إلى أوجه شبه مخيفة بين الآن وبداية التسعينيات، عندما أصبحت مشاكل إيطاليا الاقتصادية واضحة وبادية للعيان لأول مرة: بداية واعدة وقتئذ تحولت إلى 20 سنة ضائعة، والسبب الرئيسي: دخول برلسكوني الساحة السياسية. وقد يكون عهد هذا الإمبراطور الإعلامي المثير للجدل قد ولى وانتهى (على رغم أن ذلك ليس مؤكداً)، إلا أن شعبويين آخرين أخذوا يصعدون إلى الواجهة تدريجياً. ولذلك، فإن المشهد السياسي الإيطالي قد لا يخلو من الفوضى قريباً. محمد وقيف ------- إيطاليا الجيدة، إيطاليا السيئة المؤلف: بيل إيموت الناشر: يل يونيفرستي برس تاريخ النشر: 2012