بدأت مآزق الاتحاد الأوروبي الراهنة كأزمة مالية نقدية، ولكنها تحولت بسرعة إلى أزمة سياسية، أدخلت المشروع الأوروبي كله في دوامة من المشكلات جعلت شعوبه تفكر في حدود وسقف الآمال الوحدوية التي يمكن الاستثمار فيها بعد اليوم، في ضوء المآل الكئيب الذي تأدت إليه مسيرة عقود مديدة من العمل والأمل لدى شعوب القارة وقادة الاتحاد المؤسسين، ومنظريه الحالمين. وقد واكب تطاول وتفاعل المأزق الأوروبي خلال السنوات الأربع الماضية صدور عدد كبير من الكتب الداخلة في معظمها ضمن خانة أدب الفجيعة الاقتصادية والسياسية، والتنظير الأزموي الكارثي المحترف! وقليلة هي الكتب التي سعت لاستشراف المستقبل بلغة وخطاب واقعي بعيد عن التهويل والتهوين، وأقل من ذلك الأعمال التي استعادت منطلقات المشروع الأوروبي، وتتبعت خطوات بنائه، بغية فهم نقطة الانحراف أو الانجراف التي سببت مشكلاته الحالية. وضمن هذا النوع الأخير من الكتب الجادة يأتي الكتاب التأريخي الذي أصدره الكاتب الفرنسي توماس فيرانتزي تحت عنوان: «أوروبا من التأسيس إلى الانسداد»، الذي يتتبع فيه تاريخ بناء الاتحاد الأوروبي خطوة بخطوة، مبرزاً الإضافات والتحديات التي عرفتها كل مرحلة، وخاصة في ضوء حالات التوسع المتوالية، ودخول لاعبين جدد إلى المشروع الأوروبي، لكل منهم ظروفه ومقدراته الاقتصادية المميزة، وخاصة أن حبراً كثيراً قد سال في الكلام عن سلبيات «التوسيع» المفرط للعضوية الأوروبية، الذي يرى المنتقدون أنه هو المسؤول الأول والأخير عن مشكلات أوروبا اليوم. وينطلق فيرانتزي في كتابه الواقع في 103 صفحات، من البداية، وتحديداً من تأسيس اتحاد الفحم والفولاذ الذي أريد منه أن يجعل اندلاع أية حرب أخرى بين فرنسا وألمانيا «ليس فقط غير وارد، بل مستحيلاً»، وكانت تلك هي الخطوة الأولى على طريق بناء الاتحاد الأوروبي. ومع نشوب الحرب الباردة لم تعد الفكرة مقتصرة على تقوية العلاقات الفرنسية الألمانية، بل بات الهدف تقوية أوروبا الغربية كلها في مواجهة التهديد السوفييتي. وخلال عقد الخمسينيات تم إطلاق العديد من المبادرات، وحتى بعد إخفاق المنظمة الأوروبية للدفاع، التي كانت تهدف لتكوين جيش أوروبي موحد، اتجه مؤسسو الحلم الأوروبي المتحمسون إلى خيار الاشتغال على الاقتصاد تحديداً باعتباره القاطرة الأكثر فعالية، وكانت تلك هي كلمة السر في بداية نجاح المشروع الاتحادي، وهنا ظهرت منظمة الطاقة النووية الأوروبية «يوراتوم»، والمجموعة الاقتصادية الأوروبية التي عرفت لفترة طويلة باسم السوق الأوروبية المشتركة في سنة 1957 بالتوقيع في مارس من ذلك العام على اتفاقي روما التأسيسيين. وخلال العقود اللاحقة وعندما كان العالم الغربي يتجرع إكراهات «الصدمة النفطية» ما بين 1973 و1979 زاد اهتمام أوروبا «الستة» بقضية توسيع العضوية وتعميق الشراكة، وقد رفع الرئيس الفرنسي الأسبق جورج بومبيدو «الفيتو» في وجه انضمام بريطانيا. وفي الأخير دخلت في سنة 1973 برفقة إيرلندا والدانمارك، دون النرويج التي قالت «لا» لعضوية المجموعة الأوروبية في استفتاء عام. وخلال عقد الثمانينيات فتحت أوروبا «التسعة» ذراعيها لاستقبال ثلاث دول جديدة من دول جنوب القارة التي تخلصت حينها من نظم ديكتاتورية: اليونان في 1981 وإسبانيا والبرتغال في 1986 ليصبح العدد بذلك 12 دولة. وفي سنة 1995 وصل العدد إلى 15 بانضمام ثلاث دول أخرى معروفة بسياسات الحياد هي النمسا، وفنلندا، والسويد. وقبل ذلك في عقد التسعينيات نفسه مثلت اتفاقية «ماستريخت» 1992 قفزة كبيرة في تاريخ المشروع الأوروبي لجهة ما تحقق بشأن العملة الأوروبية المشتركة، تتويجاً لمسيرة طويلة بدأت في سنة 1979 حين تم تأسيس منظومة نقدية أوروبية، سمحت بالتحكم في آليات المبادلات، وتم تأسيس بنك مركزي أوروبي ليتولى التحكم في الأسعار. وبعد عشرين سنة وانضمام بقية الأعضاء السبعة والعشرين في الاتحاد الأوروبي الراهن، بدأت تظهر سلبيات التوسع لضم دول متعثرة اقتصادياً، أو ذات تنافسية اقتصادية ضعيفة، ليزرع ذلك الشكوك في مستقبل الاتحاد. ومع اندلاع الأزمة المالية العالمية في 2008 بدأت التعقيدات والمصاعب والتصدعات في البيت الأوروبي تتفاقم، وقد ظل الاتحاد يجهد خلال السنوات الثلاث الماضية لاحتواء تداعيات هذه الأزمة التي فاقمها انفجار الديون السيادية، وافتراق كلمة زعامات الدول الكبيرة والصغيرة في الاتحاد، واتساع الصدع بين دول الشمال الغنية ودول الجنوب المتعثرة، ليدخل بذلك المشروع الأوروبي كله، ومن حيث هو، ولأول مرة في تاريخه، مرحلة الأسئلة، ويتجاذب زعاماته وشعوبه الآن تياران متعاكسان من خيارات الاستمرار، وهواجس الانهيار والاندثار. حسن ولد المختار ------- الكتاب: أوروبا من التأسيس إلى الانسداد المؤلف: توماس فيرانتزي الناشر: لوموند تاريخ النشر: 2013