طوال السنوات العشر الماضية، شهدت هجرة اليهود إلى «إسرائيل» تراجعاً حاداً، مقارنة مع معدلات العقدين السابقين، بعد أن كانت تسعينيات القرن الماضي قد شهدت معدل هجرة يقترب من مئة ألف مهاجر سنوياً. وقد أظهر تقرير «دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية» أن الهجرة اليهودية إلى الدولة الصهيونية في تراجع مستمر، على الرغم من إعلان سابق للوكالة اليهودية- الصهيونية، صدر أواخر العام الماضي، أشار إلى أن عدد المهاجرين وصل إلى أكثر من (19500)، بينما قالت «الدائرة» إن العدد الحقيقي هو (16500)، علماً بأن هذه الأخيرة لم تعلن عن أعداد الهجرة العكسية، حيث إنها صدرت في تقارير منفصلة. وحسب التقديرات، يغادر إسرائيل سنوياً، لفترات طويلة، حوالي 22 ألف شخص، في حين يعود إليها عبر العام نحو 11 ألفاً إلى 12 ألف شخص، بعد غياب سنوات، ما يعني أن عدد من يهاجر سنوياً من إسرائيل هو حوالي 11 ألف شخص، ولكنهم يبقون مسجلين في سجل السكان. وقد بين سجل أصحاب حق الاقتراع في الانتخابات البرلمانية التي جرت في يناير من هذا العام، أن نحو 620 ألف شخص، أي حوالي 11% من أصحاب حق الاقتراع، هم في تعداد المهاجرين، وهذه النسبة كانت في عام 2009 حوالي 10%، الأمر الذي يعني أن الهجرة العكسية هي في ازدياد مستمر. وتعترف تقارير إسرائيلية بأن الدولة الصهيونية تواجه «مشكلة» تراجع الهجرة لكون 90% من أبناء الديانة اليهودية يعيشون في أوطانهم التي فيها مستوى معيشة أعلى من إسرائيل. وفي الأيام الأولى من شهر أغسطس الجاري، أظهر استطلاع للرأي العام نشرته صحيفة «هآرتس»، أن 37% من الإسرائيليين يفكرون بالهجرة والعيش في دول أخرى. وقد جاء في الاستطلاع أن غالبية هؤلاء يدرسون الانتقال للعيش في دولة أخرى في المستقبل. وفي هذا السياق، اعتبرت الصحيفة نتائج الاستطلاع مفاجئة في ظل المعطيات الرسمية «لدائرة الإحصاء المركزية» التي تقول إن ميزان الهجرة هو إيجابي حتى اليوم لصالح إسرائيل. وقد بينت الصحيفة كذلك أن «العامل الأساسي والمفاجئ في تحديد الرغبة بالهجرة ليس نابعاً من الأوضاع الأمنية، بل من الأوضاع الاقتصادية»، فضلًا عن أولئك الذين يهاجرون لأسباب أيديولوجية، كمعارضة الاحتلال والقوانين غير الديمقراطية. وحسب هذا الاستطلاع المهم، يتركز معظم أسباب الهجرة حول «سوء الأوضاع المعيشية وصعوبة الحصول على فرص توظيف ومهن وتعليم عالٍ، والأهم من ذلك هو التشاؤم إزاء صعوبة تحقيق السلام في المنطقة جراء الأعمال الإسرائيلية المتزايدة ضد الفلسطينيين والعرب». ومن بين أكثر الأسباب التي تذكر كمبرر لمغادرة إسرائيل القول إن: «المسألة ليست لماذا غادرنا، وإنما لماذا بقينا كل هذه المدة من دون أن نغادر؟!» وفي استطلاع الرأي إياه جاء أيضاً أن نحو نصف سكان إسرائيل الشباب يفضلون العيش في مكان ما في الخارج لو أتيحت لهم الفرصة، وأكثر الأسباب التي يذكرونها كمبرر للرغبة في الهجرة هو أن الوضع الاقتصادي في إسرائيل ليس جيداً. ومن جهة أخرى، نشر البروفيسور «سرجيو ديلي- بيرجولا» من الجامعة العبرية في القدس، بحثاً أظهر أن 14 ألف إسرائيلي قد غادروا إسرائيل في عام 2012 ولم يعودوا إليها. وأوضح بعبارات مباشرة: «من الأمور التي تزيد من ضغوط الهجرة أن إسرائيليين كثيرين قد اتخذوا إجراءات تمهيدية للمغادرة في نهاية الأمر، حيث أظهرت إحدى عمليات المسح أن ما يقرب من 60% من الإسرائيليين قد اتصلوا أو عازمون على الاتصال، بسفارة أجنبية ليطلبوا الجنسية أو جواز سفر، ولدى ما يقارب 100 ألف إسرائيلي جوازات سفر ألمانية». وفي السياق ذاته، أوضح آخر استطلاع للرأي أجرته جماعة تطلق على نفسها اسم «شبيبة هرتسل» أن منسوب الخوف على مستقبل إسرائيل ارتفع في وسط الشباب الإسرائيلي بنسبة 71% بعد اندلاع ما يسمى ثورات «الربيع العربي»، مضيفاً سبباً آخر وهو أن «الحالة الاقتصادية تكسر روح الإسرائيلي وتجعله يفكر بالهجرة». حقاً، لا يمكن تجاهل حقيقة أن نسبة كبيرة من الإسرائيليين يريدون، بدرجات متفاوتة، البحث عن مكان آخر للعيش فيه، وبالذات شريحة من تتراوح أعمارهم بين 30-39 عاماً. وقد بينت نتائج مسح أجراه مركز «طاب» للأبحاث الاجتماعية والاقتصادية أن مستوى المعيشة، وأيضاً فرص العمل أمام الشبان والأزواج الشباب، قد تراجعت وفق تقرير عام 2011-2012 في السنوات الخمس الأخيرة، الأمر الذي ينسجم، حسب هذه المعطيات، مع مقاييس منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCED)، حيث تحتل إسرائيل في هذا السياق المرتبة 25 من أصل 36 دولة. وإنه لما لا شك فيه أن ما يُطلق عليها في المعجم الصهيوني «المشكلة الديموغرافية» ترعب صناع القرار في إسرائيل. ففي الآونة الأخيرة، باتت الدولة الصهيونية ترى في هذه المسألة خطراً استراتيجياً عليها، خصوصاً في ظل تراجع هجرة اليهود إلى فلسطين، وازدياد أعداد الإسرائيليين الذين يُهاجرون منها إلى الغرب. وفي سياق متمم، يطرح «معهد سياسة الشعب اليهودي» في تقريره الأخير للعامين 2011- 2012 مسألة اغتراب الأجيال اليهودية الناشئة عن إسرائيل والأطر اليهودية والصهيونية. ومن المعلوم أن هذه القضية تطرح على جدول أعمال الكثير من المعاهد والمؤسسات البحثية، كون الاغتراب وعدم الانخراط في المؤسسات اليهودية في أوطان اليهود المختلفة، يقللان إلى درجة كلية من احتمالات هجرة هؤلاء إلى إسرائيل. وفي متن التقرير، تظهر لهجة قلق من توجهات الأميركيين اليهود إذ جاء فيه: «لدى الكثير من القادة الشباب من اليهود الأميركيين، باتت أسئلة العدالة الاجتماعية ثاقبة أكثر، بشكل خاص حينما ينتقد هؤلاء السياسة الإسرائيلية، وهذا الأمر يسري على مستوى الأفراد، وأيضاً على مستوى المؤسسات». ويكشف تفاقم ظاهرة الهجرة المعاكسة زيف الادعاءات الصهيونية بخصوص ارتباط اليهود ارتباطاً عضوياً بـ«أرض الميعاد». والأهم من هذا أن الهجرة المعاكسة هي في حقيقتها ضربة للمشروع الصهيوني الاستعماري/ الاستيطاني، فاليهود يؤمنون بأن أمنهم وأمن عائلاتهم أغلى من كل ما يمكن أن تقدمه الدولة الصهيونية، وأن الغرب، في هذا النطاق، يبقى الحاضن الآمن الأول لهم، وليس -وفق الأطروحات الصهيونية- «دولة إسرائيل».