حاولت أن أمني النفس بإمكانية الوصول إلى حلول مقبولة في حدها الأدنى للقضية السورية التي صارت جمراً متقداً، فتفاءلت بأن يكون مؤتمر جنيف القادم مخرجاً ممكناً مما ابتلينا به ولاسيما بعد أن صار توازن الضعف بين النظام والجيش الحر قابلاً لإطالة أمد الصراع الذي صار ساحة دولية تتبارى فيه بعض الدول، بين متحسر باكٍ على سوريا وما يفعل حكامها بأهلها، وبين فرح نشوان يدعو على (الفخار أن يكسر بعضه بعضاً)، وبين متآمر خبيث يظهر العون للثوار في الإعلام، ويدعم المجرمين في السر، وأحياناً يقدم العون للطرفين. وكنت دعوت مرات إلى الحوار، وأنا أعلم أن أوانه فات، وصار صعباً أن يتحاور الدم مع الرصاص، واليوم تزداد الصعوبة في بيئة الكيماوي القاتل الذي خنق كل إمكانية محتملة للوصول إلى حلول سياسية. والسوريون البسطاء الذين أغلق كثير منهم أبواب بيوتهم واعتكفوا خوفاً على أطفالهم وآبائهم ونسائهم، لم يتوقعوا أن يتم تسميم الهواء الذي يستنشقونه، وأن يتسرب إليهم غاز «السارين» أو ما هو أخطر منه فيقتلهم وهم نائمون. ويتهم النظام عصابات إرهابية بكل هذا الدمار، مفترضاً أنها تخوض الحرب لصالحه ضد عدو مشترك، هو الشعب! وقد قال لي أحدهم ألا تعتقد أن الجيش الحر هو الذي استخدم الكيماوي ضد أهل الغوطة في ريف دمشق كي يحرج النظام بوجود فرق التحقيق؟ فعجبت من السؤال وكأن السائل لا يعلم أن الغوطة معقل الجيش الحر، وسكانها أهله الذين يعاقبون لأنهم يحتضنونه، ثم هل يملك أحد غير النظام هذه القدرة الهائلة من الصواريخ النوعية المتربعة على جبل قاسيون جوار أهم معسكرات الجيش السوري التي تحيط بالجبل إحاطة السوار بالمعصم. وأنا لا أنكر أن بعض العصابات الصغيرة وجدت في مناخ الفوضى فرصة للثراء والتسلط، وهي تعمل ضد الشعب وترتكب الكثير من الجرائم، وبعضها يذكي نار الصراعات الطائفية، وقد قلت في غير موقع إن النظام نجح في بناء تشكيلات دينية أيضاً تقاتل باسم التطرف الإسلامي وتسهم في تشويه الثورة، وبعضها صار كالمارد الذي أخرجه سيده من القمقم، ثم لم يتمكن من إعادته إليه. وكان طبيعياً أن يتسرب مقاتلون أجانب في سوق مقاولات القتل والتدمير، فتدخل «حزب الله»، وتدخل الخبراء الروس، وتدخل المتطرفون ممن يسمون «القاعدة»، وتدخل من أخذتهم الحمية من بعض العرب والمسلمين، وضاعت الثورة السورية في أتون هذا الجحيم وتم خلط الأوراق بنجاح باهر. ولقد كنت أقنع نفسي بأن الحل السياسي ممكن، فغيابه يعني مزيداً من الدمار لكل أطراف الصراع، وعندها تتحول سوريا إلى دولة أشباح وجثث، ولا أستبعد أن يختار النظام خيار شمشون، بعد خيار نيرون. ولا أدري إن كان قادة النظام العسكريون يقاتلون اليوم لتحقيق نصر يعتقدون أنه ما زال ممكناً، وهل يتساءلون على من سيكون هذا النصر؟ وكيف سيكون شكل سوريا ما بعد الدمار، وهل يستطيعون متابعة الحكم فيها؟ بعضهم يرى أن هذا ممكن، وبعض المؤيدين يعتقدون أن ما حدث في الجزائر ممكن أن يستعاد في سوريا، متجاهلين أن الثورة في سوريا لم تقم من فصيل سياسي معين خسر في الانتخابات أو أقصي عنها، وإنما قامت بمشاركة كل فئات الشعب، ولم تقم في بدايتها لتغيير نظام الحكم، فقد بقيت شعاراتها تطالب بالإصلاح فترة طويلة، ولو لم تواجه بالعنف الذي استنكرناه ورفضناه مدركين أخطاره وتداعياته، لما تمت عسكرة الثورة ودخلت سوريا في هذا المعترك الدموي. لقد كنت أستعد لكتابة مقالي هذا عن مؤتمر جنيف المرتقب وعن ما يمكن أن يشكل ضوءاً في نهاية النفق السوري المظلم، ولكن مسارعة النظام إلى تصعيد حربه ضد الشعب، وإصراره على إبادة المزيد من الأطفال والنساء الذين تراكمت جثثهم أمام أعين من بقي حياً من أهلهم، تجعل الحديث عن الحل السياسي نوعاً من اللحاق بوهم أو سراب، ولا أدري كيف سيبرر المجتمع الدولي موقفه أمام الضمير العالمي وقد اكتفى ببيان صحفي! ويسألني كثير من الأصدقاء: ما البديل عن مؤتمر جنيف إذا فشل؟ وأدرك خطر الحلول العسكرية، وأعلم أن النظام أقوى من المعارضة بالعتاد بما لا يقارن، فعنده قوى دولية كبرى تقدم له من العون العسكري ما يمكنه من إبادة سوريا مرات، وعنده «حزب الله» وإيران وهما مدفوعان بعقيدة دينية تجعلهم يقتلون أهل السنة تحت «راية الحسين» بضمائر مرتاحة! وخلفه الروس الذين يحققون أهدافاً إسرائيلية وينوبون عن إسرائيل في إدارة الصراع، ويجدون فيما يحدث في سوريا فرصة لاستعادة مكانتهم المهدورة في العالم، ومعه الصين بكل ثقلها النوعي العالمي، ومعه كل الذين يخافون من أن يؤول الحكم في سوريا من بعده إلى التطرف الإسلامي. وليس مع الثورة والشعب إلا دعاؤه الضارع إلى الله، ومعونات تأتي من أهلنا وأشقائنا في الخليج العربي، واحتضان أردني وتركي إنساني لمئات الآلاف من النازحين والمهجرين، فضلاً عن احتضان بلدان أخرى بعضها بات يضيق بكثرة السوريين على أرضه ويخجل من طردهم، وبعضها يجد نفسه مضطراً للقبول بهم بدوافع إنسانية. وأما أصدقاء سوريا المفترضون ومن شجعوا الثورة في بداياتها، فأكثرهم يتململون، وبعضهم يبدي تأييداً في التصريحات فقط، ولا يجد السوريون اليوم أي تفاؤل بحلول أقل تكلفة من طوفان الدم، وثوار الداخل يعبرون عن إيمانهم العميق بالنصر، ويزدادون ثقة به، وأنا أدرك أن بقاء النظام محال، ولكنني أدرك كذلك خطر الدمار النهائي الشامل الذي يسعى إليه النظام بهدف الانتقام، وليس بهدف إيجاد حل للقضية. والسؤال المهم، كيف تستعيد الثورة أهدافها الأولى وصفاءها الشعبي الوهاج (الحرية والكرامة والدولة المدنية الديمقراطية)؟ وكيف تنجو سوريا مستقبلاً مما حدث في مصر، فلا يختطف الثورة أحد لحزب أو تيار، ثم يقع الاقتتال؟ ومن سيقنع المتشددين بأن شعاراتهم التي أعلنت هدفهم إقامة دولة الخلافة الإسلامية مكنت النظام من إيجاد أنصار له ممن كانوا يساندون تطلع الشعب إلى دولة مدنية ديمقراطية؟ ومن يقنعهم بأن الدولة عبر التاريخ الإسلامي كله كانت دولة مدنية؟ لقد بتنا بحاجة إلى حوار داخل الثورة قبل أي حوار آخر.